إمبريالية ما بعد الحداثة: الجغرافية السياسية واللعبة الكبرى - فاتحة و مقدمة

يبدو العالم لشباب اليوم كما لو كان قرية واحدة خاضعة لنظام معد سلفاً، وكأن المنطق أن يمضي التطور البشري تجاه مجتمع يتسم بالتكنولوجيا الفائقة ويخضع لاقتصاد السوق وتسيطر عليه الدولة الأكثر ثراءً ...الولايات المتحدة الأمريكية.
ولإعادة النظام للعالم يجب على الولايات المتحدة أن تتحمل عبء الإنفاق ببذخ على الوسائل الدفاعية وإلقاء القبض على الإرهابيين وإقصاء الحكام المستبدين وتحذيرالأمم الجاحدة مثل الصين وروسيا من ضرورة تعديل سياساتها حتى لا تعوق الولايات المتحدة عن مهمتها في نشر الحضارة الأمريكية دون غيرها.
أما الواقع فيخالف ذلك تماماً، فالحقيقة الوحيدة في الوصف سالف الذكر هي الهيمنة العسكرية الساحقة للولايات المتحدة على العالم حالياً، لأن الولايات المتحدة نفسها تمثل مصدراً للكثير من الإرهاب العالمي بقوات تبلغ 1.6 مليون جندي في أكثر من ألف قاعدة عسكرية حول العالم مما يعد نموذجاً صارخاً للإرهاب يتفوق بمراحل على أمثال أسامة بن لادن، وتجعل منتقدي السياسات الأمريكية خائفين على مصدر رزقهم.
بدأت أدرك حقيقة النظام العالمي مع بداية رحلتي الى إنجلترا لدراسة الاقتصاد بجامعة كامبريدج في سبتمبر 1973. حينها قررت السفر على متن السفينة عابرة المحيطات الفاخرة إس إس فرانس والتي عرضت سعراً خاصاً للطلبة هو بضع مئات من الدولارات (وعدد غير محدود من الحقائب). وعلى متن السفينة إلتقيت بعدد من الطلبة الأمريكيين المقيدين بمنحتي مارشال ورودس (أما أنا فكنت مقيداً بمنحة مكينزي كينج الأقل مكانةً) وإستنفذت كافة حيلي للاستمتاع بكل امتيازات السفر على الدرجة الممتازة، وكانت السفينة نموذجاً مصغراً للمجتمع، وكان مجتمعاً كريماً بحق أما أنا فكنت في قمة سعادتي وأردت أن أشارك الجميع بهجتي.
لكنني صدمت حيث كانت كامبريدج أيضاً نموذجاً مصغراً للمجتمع إنما مجتمع مختلف تماماً، فتعرفت في كامبريدج على العديد من الأصدقاء من أمريكا اللاتينية، وفي 11 سبتمبر من هذا العام دبرت الولايات المتحدة إنقلاباً ضد سالفادور أليندي رئيس تشيلي، وكانت هذه الأحداث بداية عهدي بالسياسة.


ظلت نظرة اليأس التي كانت تعلو وجه أحد أصدقائي التشيليين محفورةً في ذاكرتي حين أصبح لاجئاً بشكل مفاجئ كما أصبحت أسرته واصدقاؤه في خطر داهم، ومنذ هذه اللحظة بدأت مسيرتي في الدراسة والنشاط السياسي حين اتضح لي ماهية النظام العالمي من الناحية السياسية والاقتصادية، فالإمبريالية ليست شيئاً مجرداً بل هي قوة مخربة ليس من شأنها فقط تدمير الأشخاص المثاليين بل ايضا تدمير شعوبٍ بأكملها. ولذلك كان يجب إعادة النظر في الموقف من أعداء الإمبريالية وفي مقدمتهم الاتحاد السوفيتي، والذي كنت أعتبره حتي ذلك الحين إحدى قوى الشر الخطيرة في العالم.
بدأت حينئذ دراسة اللغة الروسية وعقدت العزم على تجربة حقيقة الإتحاد السوفيتي من الداخل. اتخذ نيكسون من "التهديد السوفيتي" حجة لزعزعة الثورة التشيلية ولمحاصرة كوبا ليبث الأمريكيون الذعر في قلوب الشعب الفييتنامي. فهل كان الاتحاد السوفييتي هو فعلاً إمبراطورية الشر التي تربيت على الخوف منها وكرهها طوال حياتي ؟ كان علي اكتشاف ذلك بنفسي..
بالرجوع بالنظر إلى نقطة التحول هذه في حياتي، فإنني أقف مندهشاً لوجود ثغرات في الحرب الباردة سمحت للناس برفض نموذج الرأسمالية لمعرفة من هو العدو الحقيقي. وعلى عكس نظرية مارجريت تاتشر "لا يوجد بديل" فقد كان هناك بديلاً! فسرعان ما تبخر الخوف من هذا "العدو" عند التيار السائد للمثقفين في الغرب أثناء فترات الإنفراج (من 1941 إلى 1948 ومن 1963 إلى 1968 ومن 1973 إلى 1979). كانت هذه الإستراحات القصيرة بمثابة انسحاب تكتيكي للإمبريالية في حربها طويلة الأجل لتنتظر فرصتها.
كانت دراستي تدور حول الانقلاب في تشيلي في سبتمبر 1973 وتحرير مدينة "سايجون" في ربيع عام 1975. وكانت لحظة الاحتفال بتحرير "سايجون" مع أصدقائي في كافيتيريا الجامعة محفورة في ذهني، وكأن العالم أصبح ملكنا؛ فتبين أن انحدار إمبريالية الولايات المتحدة يقابله ازدهار الاتحاد السوفيتي. كنت أدرس مع أصحاب الفكر الماركسي مثل موريس دوب و أصحاب الفكر النيوكلاسيكي مثل بييرو سرافا ولويجي باسينيتي وجوان روبينسون، لأجد نفسي فجأة أرى القرن العشرين من منظور جديد.
وفور عودتي إلى تورونتو بدأت رحلة السعي وراء ما علمت أن  اسمه "الزملاء المسافرين" ولكن لم يكونوا بالكثرة التي توقعتها. بحثت بيأس في دليل الهاتف تحت اسم الاتحاد السوفيتي ولكن لم تكن هناك حتى قنصلية واحدة للاتحاد السوفيتي في أكبر مدينة بكندا (على الرغم من وجود قنصلية بلغارية وتشيكية بل وحتى قنصلية كوبية)، وأخيراً عثرت على الزمالة الكندية السوفيتية، وهي مجموعة متنوعة متألفة أصلاً من مهاجرين سلافيين ومن شرق أوروبا ويهود وقلة من محبي السلام البروتستانت المنتمين للطبقة العليا البرجوازية المتعلمة، وهي مجموعة ودودة رغم كونها دوجماتية، ولكن دون احتمال وجود جواسيس كبار مثل كيم فيلبي. وبالنظر إلى الماضي، أعتقد أن وحدات محبي السلام كانوا أكثر وضوحاً في غيابه.
وبصعوبة شديدة ذهبت إلى موسكو عام 1979 لدراسة اللغة الروسية بجامعة موسكو من خلال الزمالة في تجربة أقل ما يقال عنها أنها تجربة غريبة لا تنسى. رغم تزايد إحساسي بالغثيان إذا مكثت في  مستشفى قذر ولكنني صمدت حتى ألقوا بنا في أماكن إقامة أوليمبية غير جاهزة لإفساح المكان لطلبة اثيوبيين جدد لأول مرة بجامعة موسكو.
إجتاح الإتحاد السوفيتي أفغانستان في ديسمبر بينما كنا نخوض في الوحل المتجمد في طريقنا إلى مسكننا الجديد، كان الانهيار اللاحق للانفراج يلوح على الساحة الدولية إحباطي مع "الأشتراكية الحقيقية القائمة"، النظام الذي لم يترك مجالاً للنقد أو الشك في مواجهة الكثير من الهراء والوحشية.
تلاشى حماسي لإشتراكية الاتحاد السوفيتي*، وبالرغم من ذلك أثناء عودتي لأمريكا الشمالية واجهت الدعاية الجنونية  والروح القتالية لأمريكا في عصر ريجان، وأيقنت أن علاقة الحب التي تربطني بالوحش السوفيتي لم تنته - فقد كان هناك بديلاً. عندما ألغى جورباتشوف الرقابة (سياسة الشفافية) وبدأ إصلاحه الاقتصادي المشؤوم (إعادة الهيكلة الاقتصادية) حصلت على وظيفة في أنباء موسكو، فتبين لي أن استعجالي بالوصول هناك لم يذهب هباءً.
كانت الاستراحات القصيرة من الحرب الباردة والمحاولة المجنونة الأخيرة الأخيرة لخلق إشتراكية أفضل تستحق الذكر. خافت الولايات المتحدة فعلياَ من بلد آخر واحترمتها، ومدت هذه البلد يدها الدبلوماسية في صداقة لتكتشف أنها انتهكت على يد "صديقتها" الجديدة. تعهد بوش الأب والابن وحالياَ أوباما ألا يسمحوا لأي بلد أن تتحدى الولايات المتحدة عسكرياً. ويالسخرية القدر الذي أفقد التفوق العسكري التقليدي معناه في زمن تفوقت فيه القنابل الحقيرة والجمرة الخبيثة.
تسبب الاتحاد السوفيتي في كوارث بيئية أشهرها جفاف بحر خوارزم، ودمرت الزراعة الجماعية تحت تهديد السلاح تقاليد الفلاح النابضة بالحياة. كانت معتقلات العمل الإلزامي السوفيتية مأساة رهيبة، ولكن الاستعمار والفاشية تسببوا في مقتل عدد أكبر من الأبرياء، كما أشترك كلاهما في العدوانية وإشعال الحروب مع البلاد الأخرى.
كان الإتحاد السوفيتي نظام دكتاتوري ذا حزب واحد، وليس إمبراطورية آخذة في الاتساع على عكس ما تربينا ونتربى على تصديقه. وبالرغم من كل عيوبه السياسية، فقد أوضح لنا مدى قابلية نظام غير رأسمالي في تنظيم مجتمع مدني متقدم تكنولوجياً؛ حيث قابلت عيوبه السياسية مثل انعدام الكفاءة والفوضوية وانخفاض المستويات والإهمال البيئي العديد من المميزات مثل التوظيف المضمون ومجانية الخدمات العامة وتوفير الاحتياجات المادية البسيطة وسهولة الحصول على الثقافة وأمن المواطنين، وهو أسلوب حياة أقل تنافسية وأكثر مساواةً كما استوعبه العالم الثالث الذي مازال ينعي رحيله.
لم أكن أعير الشرق الأوسط انتباهاً ،وهو عدو أسرائيل الأول، مفترضاً أن تعاظم القوى المناهضة للإمبريالية سيضغط على أسرائيل لعقد السلام ولكن اغتيال إسحاق رابين عام 1994 وهيمنة المحافظين الجدد حال دون استحالة حدوث ذلك.
أدى انهيار الاشتراكية إلى بقاء الإسلام وحده كقوة مناهضة للإمبريالية، والتفت انتباهي إلى أوزبكستان المتشبعة بالتراث الإسلامي في أواسط آسيا، وكانت مشاهدتي لانهيار برجي التجارة بعد 28 عاماً من انقلاب 9/11 في تشيلي في نفس التاريخ "9/11" من عام 2001 نقطة تحول كبرى بالنسبة لي في طشقند التي تسودها كآبة ما بعد الانهيار السوفيتي.
كانت ردة فعلي الفورية هي اعتقادي أن انهيارهم لم يكن نتاج عمل مجموعة من المسلمين غير المدربين يقودهم شخص من كهف في أفغانستان المجاورة، ولكن بعد البحث المتعمق تأكد لي أن أحداث 2001 كانت مرتبطة بإمبريالية الولايات المتحدة وإسرائيل أكثر من ارتباطها بالإسلام.
كم أنا محظوظ لكوني عشت حياتي في كلتا الناحيتين من الستار الحديدي للاتحاد السوفيتي وحالياً أعيش في قلب العدو المفترض الحالي العالم الإسلامي، مما أعطاني فرصة اختبار واقع مختلف عن طريق التخلي عن تراثي الغربي لرؤية كيف يواجه الغرب البلاد والثقافات الأخرى ويتلاعب بها. هناك العديد من أمثال هذه الرحلات الاستكشافية قام بها أشخاص نضجوا سياسياً، أتمنى أن تقدم أفكاري الفرصة للقراء أن يتخلوا عن إطارهم المرجعي وتساعدهم في فهم الألعاب التي نجبر على لعبها.

*  ملحوظة على استخدام مصلحات الاشتراكية والرأسمالية والإمبريالية: يشير مصطلح الاشتراكية إلى النظرية كما قدمها ماركس ومحاولات تحقيق النظرية كما تجسدت في التشكيلات الأجتماعية لروسيا ما بعد 1917 وأوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، أما الرأسمالية والإمبريالية فقد ابتعدوا تماماً عن النظرية على الرغم من أنهم مستلهمون من ماركس، فيستبدل النقاد "الاشتراكية" بلفظ "رأسمالية الدولة" كما يحلو لهم، ولكن هذا لا يقلل من الفكرة العامة للأشتراكية هنا فأنا أتعامل مع مصطلحي الرأسمالية والإمبريالية كمصطلحات علمية مثلما استخدمها ماركس ولينين. أضحى الاتحاد السوفيتي ديكتاتورية قاسية تحت حكم ستالين، ولكن المنطق وراء الاتحاد السوفيتي وعلاقاته بأوروبا الشرقية لم تكن إمبريالية. لاستخدام هذه الألفاظ بشجاعة للإشارة إلى التشكيلات الأجتماعية غير الرأسمالية سوف يقلل من النبش في أنقاض الملكية الفكرية ل9/11، وهي استعارة ملائمة لكيفية تحكم الولايات المتحدة الرأسمالية بالفكر لمنع أي معارضة من الترسخ والثبوت.


مقدمة



الجيوسياسية والألعاب الكبرى
" تركستان وأفغانستان وترانسكاسبيا و بلاد فارس، تمثل هذه الاسماء للكثيرين إحساساً بالعودة إلى الماضي البعيد أو ذكرى لتقلبات عجيبة ولرومانسية احتضرت. ولكن بالنسبة لي فأنا أعترف أنها قطع من الشطرنج يتم التلاعب بها في لعبة للسيطرة على العالم "
اللورد كارزون، الحاكم العام للهند (1898)

من يحكم شرق أوروبا يتحكم في محور العالم
ومن يحكم محور العالم يتحكم في قارات العالم القديم
ومن يحكم قارات العالم القديم يتحكم في العالم
هالفورد مكيندر (1919)

جيوسياسية آسيا الوسطى والشرق الأوسط

صيغ مصطلح «اللعبة الكبرى» في القرن التاسع عشر لوصف الصراع بين روسيا و بريطانيا حيث أرسلت بريطانيا جواسيس متنكرين في هيئة باحثين وتجار إلى أفغانستان وتركستان وأرسلت في العديد من الأحيان جيوشاً لإيقاف الروس عند حدهم. لقد عجلت المخاوف من قيام الروس بالإعتداء على مصالح بريطانيا في الهند في شن الحرب الأفغانية-البريطانية المشؤومة [1839-1842]، وهذا بعد أن  تمكنت روسيا من فرض وجود دبلوماسي وتجاري لها في أفغانستان. وبحلول القرن التاسع عشر لم تعد هنالك ما تسمى أرضاً حيادية، فأصبح العالم عن بكرة أبيه ملعباً عملاقاً للقوى الصناعية العظمى وأصبحت منطقة أوراسيا منتصف هذا الملعب.
يفيد تعبير "اللعبة" في وصف التنافس حامي الوطيس ما بين الأمم والنظم الاقتصادية مع تصاعد الإمبريالية والسعي وراء السيطرة على العالم،  وتتجاوز هذه اللعبة الصراع الروسي – البريطاني على افغانستان لتصل إلى قلب منطقة أوراسيا التي تضم آسيا الوسطى والشرق الأوسط معاً وهو ما كان يسمى فيما مضى بتركستان، وإمبراطورية بلاد فارس والخلافة العثمانية التي تشمل الفرس والأتراك والعالم العربي، وهي شعوب معظمها من المسلمين.
تختلف منطقة أوراسيا من الناحية الجيوسياسية عن منطقة أمريكا الشمالية والجنوبية والتي كانت تخضع لسيطرة محكمة من الولايات المتحدة منذ إعلان "مبدأ مونرو" والذي يعد أكثر المبادىء الجيوسياسية رسوخاً وهو يروج لفكرة الإكتفاء الذاتي القومي والقاري وفرض سيطرة القوة المهيمنة  لتحقيق السيادة والمصالح الاقتصادية على حدٍ سواء. تمنع الطبيعة الجغرافية لأمريكا تدخل أي من منافسيها في هذا الوضع على عكس منطقة اوراسيا مترامية الأطراف والتي تمتد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً والتي تضم أكثر من 80 في المئة من سكان العالم ويتنازع العديد من المتنافسين لفرض سيطرتهم عليها.
بدأت هذه الدراسة لجيوسياسية منطقة أوراسيا مع إشتراك الولايات المتحدة في المنافسة في مطلع القرن العشرين عندما كانت بريطانيا، بوصفها القوة المهيمنة الأكبر، تضع خطط لعبتها الاستعمارية للمنطقة على حساب القوى الامبريالية الأخرى.
يشير مصطلح الجيوسياسية إلى إستخدام السياسة للسيطرة على المناطق من أجل مواردها ولأسباب تاريخية وأسباب اجتماعية وسياسية حيث توجد بهذه المناطق أماكن جغرافية معينة ذات أهمية إستراتيجية أكثر من غيرها. عادةً ما يقترن هذا المصطلح باسم الخبيرالسياسي والجغرافي "هالفورد ماكيندر" أوائل القرن العشرين رغم اعتقاده بأن هذا المصطلح مضلل وخيالي ويؤدي إلى مقارنات خاطئة. كان البروفيسور كارل هاوسهوفر – وهو من ميونخ- أكثر حماسةً بشأن التلاعب بمفهوم التنافس والتعاون الإقليمي معاً في منطقة محور العالم لبزوغ نظام أوروبي جديد يؤدي في نهاية المطاف لنظام جديد لمنطقة أوراسيا، نظام لا تسيطر عليه بريطانيا ولكن ألمانيا بالتعاون مع روسيا ويواجه القوة الأنجلو-أمريكية. وكانت بريطانيا تعتمد على القوة البحرية لاحتواء القوى الموجودة بمنطقة محور العالم، وتحديداً ألمانيا.
أشار فريدريك راتزل في كتابه Lebensraum عام 1901 أن الحدود البرية لمنطقة أوراسيا مترامية الأطراف تعد حدوداً إعتباطية يمكن تغييرها لتلبي الإحتياجات المتزايدة للسكان والصناعة (من وجهة نظر الألمانيين هاوسهوفر وراتزل). وضع راتزل نظرية أن الدول منشآت إصطناعية عضوية ومتنامية يرتبط فيها الأرض وما عليها من ناس بعلاقة روحية، وأن حدود أي أمة سليمة ومعافاة لابد من أن تتوسع. هذا هو مبدأ مونرو ومبدأ القدر المحتوم المتزامنان بالنسبة لقارة أوراسيا.
 
شكل 1: خريطة آسيا الوسطى والشرق الأوسط

شكل عنصرا منطقة أوراسيا وهما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، طريق الحرير الأسطوري المكون من عدة مسارات بغرض التبادل الثقافي والتجاري والتكنولوجي بين التجار والحجاج والبعثات التبشيرية و الجنود والبدو الرحل القادمين من الصين والهند والتيبت وبلاد فارس ودول البحر الأبيض المتوسط، ويرجع تاريخ هذا الطريق إلى القرن الثالث قبل الميلاد مستمداً اسمه من تجارة الحرير الصيني المربحة.
 
شكل 2: خريطة لقلب العالم

مع إنتشار الإسلام في القرن السابع اتحدت كل البلاد على المسارات الرئيسية لطريق الحرير، بخلاف الصين، في مواجهة الغرب المسيحي/ الوثني/ اليهودي بينما كانت الخلافة الإسلامية، والتي كان مقرها دمشق في عهد الأمويين ثم بغداد في عهد العباسيين،توحد هذه المساحة الشاسعة تحت راية الإسلام. إجتاح المغول، الذين أعتنقوا الديانة الشامانية من قبل ثم إعتنقوا الإسلام فيما بعد، منطقة أوراسيا بالكامل ما بين القرن 13 و14 لتتوحد مع الصين، وأعاد المسلمون التيموريون توحيدها ما بين القرن ال14 و ال15.
وبمرور الزمن، تفكك هذا الشكل الأولي للإمبراطوريات إلى إقطاعيات قبلية في الشرق والخلافة العثمانية في الغرب ولكن دون أن تظهر دول متحدة عرقياً على النمط الغربي أو النظام الاقتصادي الرأسمالي.
إتحد الشرق الأوسط تحت راية العثمانيين إبتداء من القرن الرابع عشر، بينما بدأت تركستان (آسيا الوسطى) وطريق الحرير رحلة الإنحدار من بعد التيموريين نتيجةً لبزوغ التجارة البحرية الغربية وبالتالي ظهور إمبراطوريات غربية متصلة بالشرق عبر طرق المواصلات البحرية.
ضمت روسيا معظم تركستان خلال الفترة من القرن 17 حتى القرن 19 بدايةً بكزاخستان ومنطقة القوقاز، وأدى التنافس البريطاني والذي أصبح معروفاً باسم اللعبة الكبيرة إلى عدة محاولات من جانب بريطانيا لقمع أفغانستان في القرن التاسع عشر توجت بتوقيع إتفاقية مع روسيا عام 1890 لتظل أفغانستان منطقة محايدة.
" في عام 1907 وقع كل من وزير الخارجية الروسي الكونت أليكساندر إيزفولسكي والسفير البريطاني سير أرثر نيكلسون معاهدة سرية في سانت بطرسبرج حدد فيها كلا البلدان مصالحهما الإمبريالية في آسيا الوسطى، حيث وافقت الحكومة الروسية على أن تقع أفغانستان في دائرة نفوذ بريطانيا، وفي المقابل تعهدت بريطانيا ألا تعارض بسط سيطرة حكم القيصر الروسي على باقي آسيا الوسطى" ، وأكدت الصين مطالبتها بتركستان الشرقية (مقاطعة شينجيانج) عام 1877. ومن هنا تشكلت مناطق النفوذ التي استمرت بشكل أو بآخر حتى يومنا هذا.
كان إنحدار الوضع في الشرق الأوسط أبطأ لاتصاله بالغرب من خلال التجارة. أثناء لعبة القرن التاسع عشر الإمبريالية، والتي سميتها هنا " اللعبة الكبرى الأولي"، أبقت بريطانيا على أفغانستان وإيران و الخلافة العثمانية كتشكيلات سياسية مستقلة اسماً رغم خضوعها للمصالح البريطانية. كانت بريطانيا تتابع إدارة مصالحها في أفغانستان وإيران جيداً ولكن بالنسبة للخلافة العثمانية فقد أدى ضعف الحكم  إلى تحويل الخليفة العثماني إلى لاعب محايد ومفيد يسمح للعديد من القوى الإمبريالية بممارسة التجارة في المنطقة دون اللجوء إلى الحرب.
تغير الموقف جذرياً مع الحرب العالمية الأولى، فحلت الحرب ككارثة على كل القوى الإمبريالية الأوروبية، وكانت الثورة الروسية عام 1917 إعلاناً للحرب على النظام الإمبريالي نفسه فحفرت نقطة البداية لما أطلق عليه هنا "اللعبة الكبرى الأولى" وهي الحرب الباردة بين الإمبريالية والشيوعية، حيث اتحدت الولايات المتحدة مع منافسيها السابقين بريطانيا وألمانيا وفرنسا وأخرين لمحاربة القوى المعادية للإمبريالية بالرغم من أن هذه اللعبة لم تبرز صراحةً حتى إنتهاء الحرب العالمية الثانية. ويمكن تسمية الفترة من 1917 حتى الحرب العالمية الثانية " المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى".
فضح الاشتراكيون الروس الخطط البريطانية لتقسيم الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الثانية عندما نشروا المراسلات الدبلوماسية البريطانية مع القيصر نيكولاس الثاني مثلما فضحت الويكيليكس الأكاذيب الدبلوماسية في 2010، ومع ذلك شرعت بريطانيا عام 1918 في تقسيم الخلافة العثمانية كنوع من التسوية السياسية في المنطقة مع غريمتها فرنسا، أما ألمانيا وروسيا فلم يصبحوا ذو أهمية. تقسمت الخلافة العثمانية إلى أشباه مستعمرات "الانتداب" باستثناء منطقة الأناضول التركية في خطة متطرفة لخلق دولة يهودية في قلب فلسطين.
أصبحت تركستان الآن جزءاً من تشكيل اشتراكي سياسي اقتصادي جديد، وظلت حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية وبانهيار الاتحاد السوفيتي بمنأى عن الإمبريالية كجزء لا يتجزأ من خلافة علمانية لا تعني فيها الحدود الكثير يتحد فيها الناس على إيمان شديد بالاشتراكية بدلاً من الإيمان بالقومية أو بدينٍ ما. في العشرينات من القرن التاسع عشر قسم الاتحاد السوفيتي تركستان على حسب العرقيات إلى تقسيمات إدارية شكلية: أوزبكستان وكزاخستان وطاجيكستان وقرجيستان وتركمنستان (بترتيب الكثافة السكانية) بالاضافة إلى أذربيجان، وتطوروا طبقاً للخطط المركزية السوفييتية محققين مستوى معيشة مرتفع مقارنةً بجيرانهم غير الاشتراكيين أفغانستان وايران وباكستان المستعمرة، ولكن كان ذلك على حساب الاسلام الذي كان في حالة من القمع الشديد.
وحيث لم يبدو الاتحاد السوفييتي آنذاك كخطر داهم للهند البريطانية، فقدت أفغانستان ذات الحكومة الملكية الضعيفة أهميتها الجيوسياسية كأحدى المعابر الروسية للهند أثناء المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى، وكانت إيران - والتي تمتد بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى-هي الأخرى ذات حكومة ملكية ضعيفة ولكن في أواخر القرن التاسع عشر ذاع صيتها بشكل أكبر من أفغانستان بكثير نظراً لاكتشاف المخزون الوفير من البترول هناك وهو البديل العملي للفحم كوقود لتشغيل هذه الامبراطورية المتنامية. كانت إيران محتلة من قبل بريطانيا والإمبراطورية الروسية خلال الحرب العالمية الأولى، ومرة أخرى من قبل بريطانيا والاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية أثناء المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى لمنعها من الانحياز لألمانيا ولضمان الوصول لبترولها حتى أصبح دورها حيوياً لدعم الإمبراطورية في المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى ولكن اختلف دورها جذرياً بحلول المرحلة النهائية للعبة الكبرى الثانية.
تعد المرحلة النهائية للعبة الكبرى الثانية – إحتواء ريجان للاسلاميين وانهيار الاتحاد السوفييتي إنقلاباً في الأحداث؛ فالحقيقة فعلاً أغرب من الخيال.
فبانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الأشتراكية في ما بين 1989 و1991 وبداية ما أطلق عليه هنا اللعبة الكبرى الثالثة، أتحدت منطقتا الشرق الأوسط وآسيا الوسطى مرة أخرى في طريق الحرير الجديد الذي يمتد من الصين حتى ايطاليا مثلما كان منذ الف عام، فقد أصبح متاحاً مرة أخرى لكل الوافدين آخذاً في طريقه سبعة عشر هيئة سياسية جديدة على الأقل: الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة من البوسنة وكرواتيا ومقدونيا والجبل الأسود والصرب وسلوفينيا وكوسوفو في البلقان، وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا في جنوب القوقاز، كزاخستان وقرجستان وطاجيكستان وتركمنستان وأوزبكستان في آسيا الوسطى، ومولدوفا وأوكرانيا في أوروبا الشرقية.
ولكن بدلاً من أن يتحدوا تحت لواء الاسلام أو المغول، يتحدوا اليوم تحت حكم الولايات المتحدة وقواتها العسكرية متعددة الأطراف متمثلة في حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، تكشف محطات التوقف في مسيرة قافلة الناتو للقرن الواحد والعشرين من المحيط الأطلنطي إلى الحدود الصينية عن طبيعة اللعبة الحالية؛ فلكل البلاد سالفة الذكر شراكات رسمية مع الناتو، وجمهوريتان من يوغوسلافيا السابقة وهم سلوفينيا وكرواتيا أصبحتا أعضاء كاملين، ومعظمهم قد وفر الجنود لحروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. للولايات المتحدة قواعد عسكرية في كوسوفو وقرجستان وطاجكستان، وتسلح القوات المسلحة الجورجية بشكل مباشر وتدربهم وتحتل العراق وتشن حرباً في أفغانستان من باكستان.
تعد المنطقة من البلقان حتى حدود الصين احدى مكائد الحرب منذ قرنٍ مضى، وخاصةً الآن أكثر من أي وقت مضى، لذا تبدي الناتو التابعة للولايات المتحدة شديد اهتمامها بملتقى الطرق هذا لما له من أهمية من الناحية الأستراتيجية الجيوسياسية: سيطرة الولايات المتحدة هناك تعني السيطرة على روسيا والصين وإيران، الذين يمثلون حلم الخبراء الأستراتيجيين البريطانيين في اللعبة الكبرى الأولى وحلم الخبراء الأستراتيجيين الأمريكيين في اللعبة الكبرى الثانية والثالثة. بالأضافة لأحتوائها على معظم المصادر البتروكيماوية من السعودية والخليج العربي في الجنوب حتى كزاخستان في الشمال وإيران في الشرق.
فقد يفسر هذا بالطبع سبب حرص الولايات المتحدة على الأحتفاظ بها والسيطرة عليها ومراهنتها بكل ما تملك من أجل هذا الهدف طوال العقد الماضي؛ حيث وقعت الثلاث حروب الكبرى التي شاركت فيها الولايات المتحدة في العقد الماضي جميعهم على طريق الحرير الأسطوري: يوغوسلافيا (1999) وأفغانستان (2001) والعراق (2003).
لا تملك أي من بريطانيا أو الولايات المتحدة أو الناتو حق غزو أي من هذه البلاد، فبالأحرى في أي سيناريو سلمي للمنطقة يجب أن تتحد قواتها للأرتقاء بالمستوى الاقتصادي والأمني للمنطقة، أما المزيد من الحروب فلن تؤدي إلا إلى المزيد من المآسي لكافة الأطراف. ولكن هذه الحروب بعيدة كل البعد عن واشنطن، وتدار بشكل متزايد عن بعد من خلال لوحات تحكم بالكمبيوتر من أماكن متواضعة بالضواحي مثل قاعدة ماكديل الجوية بفلوريدا، مقر القيادة المركزية للولايات المتحدة، بدلاً من وجود قوات برية تحوم في صحاري العدو وجباله. مع العلم أن القوى المحرضة على الحرب غير منطقية بأي شكل من الأشكال.
على كل حال كان بالنسبة لروبرت جايتس مستشار مجلس الأمن القومي للرئيس كارتر عام 1979 قمة المنطق مساعدة الأسلاميين في التمويل والتسليح في أفغانستان للتغلب على الاتحاد السوفييتي، أما واضعي الخطط في البنتاجون أو في مقار الناتو ناقشوا "بالمنطق" في 2010 أن موجة عاتية من قنابله في أفغانستان من شأنها إحلال السلام في المنطقة، وفي حالة فشل هذه الخطة فعلى الأقل ما سببوه من فوضى هو بعيداً عنهم، السلام الوحيد الذي جلبته الولايات المتحدة حتى الآن في اللعبة الكبرى الثانية والثالثة هو سلام الموتى.
وبعد سبعة قرون تلاقى مصيري الشرق الأوسط وآسيا الوسطى مرة أخرى، ولكن اليوم تتكون هذه المنطقة الفسيحة المليئة بعشرات المجموعات العرقية والقبائل والعشائر بشكل كبير من دول اصطناعية نتيجة مبدأ "فرق تسد" الاستعماري الذي يحرض الشعوب التي لم تخوض مثل هذه الحروب الطاحنة والغزوات منذ القرن الرابع عشر على التفرقة، تكتشف هذه المنطقة الفسيحة لمرة أخرى جذورها المشتركة في الاسلام، أما عن زعماء المعارضة والمقاومة، الولايات المتحدة وإسرائيل، فهم عاقدين العزم والنية على تمزيق المنطقة إلى أشلاء.
 الألعاب الكبرى وكونها متغيرات للأمبريالية:
الأهداف:
إن هدف الأمبريالية وكل الألعاب المذكورة هنا هو إحداث تغيرات على النمو الاقتصادي واصطياد الربح و(للاستهلاك العام) الارتقاء بمستوى الشعوب المتأخرة التي يطلق عليها روديارد كيبلنج الاسم المشين
" عبء الرجل الأبيض" رغم كونه لا يشير إلى الأمبراطورية البريطانية ولكنه يشير إلى الحرب الأمريكية ضد الفلبين المبررة على أنها عمل نبيل:
هيا ابعثي بأفضل ما عندك من شباب، اذهبي وابعثي أولادك إلى المنفى
حتى نخدم مطالب من تستعمرينهم
من خلال الحروب الوحشية من أجل السلام
فالهدف الخفي أعمق من مجرد إرسال الابناء لخدمة من تستعمرهم في حروب من أجل السلام، بل هو لمصادرة فائض ثروات البلاد الأضعف وهي البلاد النامية، فيكون إندماجهم في إقتصاد الأمبراطورية –المركز- في شكل تبعي ومربح، ولضمان عدم حصول قوى إستعمارية أخرى على نفس الفرصة عرف لينين الأمبريالية على أنها:
الرأسمالية في تلك المرحلة من التنمية التي أثبتت هيمنة الاحتكار ورؤوس الأموال الأستثمارية نفسها فيها؛ التي أكتسب فيها استيراد رأس المال أهمية واضحة؛ التي بدأ فيها تقسيم العالم على حسب الأئتمان الدولي؛ التي أكتمل فيه تقسيم مناطق العالم أجمع على أكبر القوى الرأسمالية.
كان إزدهار الأمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر بكل عظمته وتلاعبه الساخر بالحشود تطوراً ملحوظاً وبحق كما قال جون أتكينسون هوبسون عام 1902:
إن الأمبريالية هي مجرد بداية لإدراك مواردها كاملة، لتتطور إلى فن بديع لإدارة الأمم: هبة كبيرة مثل حق الأمتياز يمارسها أشخاص بلغوا قدراً من التعليم يعطيهم قدرة سطحية على قراءة المواد المطبوعة، تشبه جداً رجال الأعمال السياسيين الذين من خلال تحكمهم في الإعلام والمدارس وإذا لزم الأمر الكنائس يطبقون الأمبريالية على الحشود تحت مظهر الوطنية اللامتناهية.
فقد رأى كيف تهييء الرأسمالية الساحة لأول مرة في التاريخ للسيطرة الكاملة على العالم، وهو الهدف الذي يسعى إليه إمبرياليين اللعبة الكبرى الأولى، جاعلين من الطبقة الكادحة البريئة شريكة في جريمتي القتل والسرقة.
طوال قرابة قرنين مر الكفاح المبذول للوصول لهدف السيطرة على العالم بشتى المراحل، أما اللعبة الحالية "اللعبة الكبرى الثانية" تختلف تمام الاختلاف عما قبلها رغم تشابههم مع الألعاب السابقة:
⦁    يوجد الآن بديلاً للمؤسسات المالية للعبة الكبرى الأولى، تحديداً لعائلة روتشيلد، بوجود صندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات المالية العالمية.
⦁    يشمل الملعب أو النطاق الجيوسياسي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى معاً مرة أخرى كما كان في اللعبة الكبرى الأولى، بوجود أشرس المعارك في أفغانستان مرة أخرى.
⦁    يوجد تنافس جيوسياسي كما كان في اللعبة الكبرى الأولى، ولكن التنافس الآن ليس بين القوى العظمى فقط بل بين الفرق الأستعمارية نفسها فعلى سبيل المثال بين الولايات المتحدة وأسرائيل بدلاً من التنافس الصريح بين بريطانيا والمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، والتنافس الأكثر تعقيداً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في اللعبة الكبرى الثانية.
⦁    تحولت معاهدة الدفاع في اللعبة الكبرى الأولى ضد الشيوعية والناتو لتبرير الهدف الأسمى
⦁    يوجد عدو مشترك كما كان في اللعبة الكبرى الثانية، ولكنه عدو من نوع مختلف تماماً، من النوع الذي لا يقهر أبدا.
استخدم اللاعبون استراتيجيات مطورة على مدار القرن الماضي في الألعاب السابقة بالإضافة إلى حيل جديدة مستخدمين أحدث تكنولوجيا للسعي وراء هدف عتيق وهو السلطة والسيطرة على الموارد.
ولكن الآن تختبر المنطقة بأسرها ثورات وصراعات غير مسبوقة، اما الفرق المشتركة في لعبة استخراج الفائض تشمل الآن كل القوى العظمى في العالم لتغيير التحالفات بما فيها تركيا وإيران وباكستان والهند والصين، جميعهم بعلاقاتهم التاريخية والثقافية وأهدافهم و موطيء نفوذهم والذي يجب وضعه في الأعتبار في ضوء محيطهم. وجود أسرائيل الشاذ في منتصف اللعبات الثلاث؛ كمتفرج في اللعبة الكبرى الأولى، كبؤرة استيطانية في الشرق الأوسط في اللعبة الكبرى الثانية، وكلاعب عالمي مستقل في اللعبة الكبرى الثالثة متحالف في بعض الأحيان مع الولايات المتحدة ومنافس حقيقي لكل اللاعبين الكبار.
كانت الأهداف الجيوسياسية والاقتصادية للعبة الكبرى الأولى (الأمبراطوريات المتنافسة) والثانية
(الأمبريالية ضد الشيوعية): 1- ألا تخسر تأثيرها 2- أن تجني الثروات بقدر الإمكان، فهي لعبة ذات مجموع صفري. أما في اللعبة الكبرى الثالثة فالأهداف أكثر تعقيداً لأن كثرة اللاعبين يصعب معها توحيدهم، وتستمر الأمبراطورية في سباق السيطرة على العالم الذي يحدث في كافة بقاع العالم لتسبب العديد من المتغيرات في اللعبة جاعلة المجموع غير صفري.
الاستراتيجيات
يتطلب استخراج الفائض سيطرة سياسية مباشرة أو غير مباشرة على الدول النامية. فضلت القوى الأستعمارية للعبة الكبرى الأولى والقوى الأستعمارية الجديدة للعبة الكبرى الثانية والثالثة الأعتماد على الوسائل التجارية والمالية، ولكن إذا أقتضت الضرورة سيصلوا لأهدافهم من خلال الحرب.
أسفرت هذه السيطرة عن عدة نتائج مختلفة؛ فالدعائم أو أساسيات هذه الهيمنة الأمبريالية هي مالية وعسكرية- سياسية لضمان السيطرة على القوة العاملة والمواد الخام، تتضمن آلية التمويل "شروط التجارة" التي تفيد الغرب ومؤسسات الإقراض بالفائدة، وتكمل المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي عمل ممولي القطاع الخاص الدوليين للعبة الكبرى الأولى في ضمان استخراج الفائض، مع العلم أن صندوق النقد الدولي من إنشاء الغرب وهو المسيطر عليه لتسهيل هذه العملية، وعلى الدول النامية إتباع مايملى عليهم. تستبدل تجارة العبيد، التي تعتبر عماد استخراج الفائض في اللعبة الكبرى الأولى، بالعمالة الخارجية بالأضافة إلى شبكة واسعة من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من الدول النامية إلى الغرب المشتت طامحين في أي فرصة عمل بغض النظر تحت أي ظروف وفي أي مكان.
تتضمن آلية الأمبريالية السياسية خلق كيان استعماري، وفي اللعبة الكبرى الثانية والثالثة خلق كيان استعماري جديد مستقل عن الغرب. الدول النامية وهي اليوم دول العالم الثالث مرت بنهج مختلف تماماً لتكوين أمة بعيدة عن الغرب، فهذه الدول إما نشئت نتيجة حروب دامية للحصول على استقلالها كما في أمريكا اللاتينية وآسيا أو ولدت عن قوة أمبريالية لها حدود كان المقصود بها إشعال فتيل فتنة طائفية وعرقية مما يؤدي إلى تلاعب خارجي.
كان هذا مصير معظم مستعمرات الشرق الأوسط، بل وكان متعمد إلى حد كبير. وبصفة بريطانيا المنتصر الرئيسي في اللعبة الكبرى الأولى، أتبعت استراتيجية "فرق تسد" في الشرق الأوسط والتي تهدف إلى خلق سلسلة من البلاد العربية الضعيفة الخانعة وبؤرة استيطانية أوروبية في منطقة حيوية بالنسبة للأمبراطورية الأنجلو-أمريكية. تسبب الاحتلال البريطاني ومن بعده تقسيم الهند الرهيب في اشتعال الأزمات التي أصبحت محوراً لصراعات اللعبة الكبرى الثانية في آسيا الوسطى.
ففي تعريف كلاوزفيتز " الحرب هي تكملة السياسة ولكن بطريقة أخرى"، فيمكن استخدام "القوة العسكرية" ولكن هناك العديد من استراتيجيات وأساليب "قوة الجذب" التي تستخدم بدلاً من أو بالاضافة إلى  الحرب  كجزء من الترسانة السياسية. تسمى هذه القوة "ما وراء السياسة" - استخدام القوة السياسية بوسائل خفية والتي يمكن أن تتحول إلى " تعمق سياسي" – أو الفعل ورد الفعل لقوى غير معترف بها ولا يسيطر عليها عملاء ماوراء السياسة الأصليون.
يوجد بجانب المؤسسات الرسمية للأمبريالية مؤسسات غير رسمية تتضمن القرصنة والقرصنة المنظمة من الدولة وهي أحدى الطرق التقليدية التي استخدمها الغرب لمصادرة ثروات الدول النامية (العبيد والذهب في أغلب الأحيان) وأشهر من فعل ذلك الأسطوري فرانسيس دراك. حولت الرأسمالية القرصنة إلى مجموعات من المافيا في اللعبة الكبرى الأولى والثانية والثالثة أحدثهم وأقواهم المافيا الروسيا أو المافيا اليهودية، وأصبح القراصنة المنظمين أوالمرتزقة لاعب أساسي في اللعبة الكبرى الأولى، وأصبح هاماً مرة أخرى لنجاح اللعبة الكبرى الثانية.
لم تعترف الولايات المتحدة قط بكونها أمبراطورية رغم مبدأالقدر المحتوم لأمريكا الأستعمارية ومبدأ مونرو والحرب مع أسبانيا الأستعمارية على الفلبين وكوبا ورغم الحروب في كوريا وفييتنام والحروب القائمة، ورغم حقيقة كونها أستفادت بشدة طوال الألعاب من عملية استخراج الفائض من الدول النامية، وهذا صحيح بالمقارنة بالقوى الأستعمارية الأوروبية في اللعبة الكبرى الأولى، فقد كانت بريئة نسبياً خاصةً فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
دعا المحللون البريطانيون مثل روبرت كوبر المستشار الأوروبي ومستشار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى "نوع جديد من الأمبريالية" تتحمل فيها الدول الغربية "المسئولية السياسية لمناطق الفوضى ... فيبدو وكأن جميعنا أمبرياليين الآن"، أما تعريف لينين القديم للأمبريالية بوصفها "المرحلة الأخيرة للرأسمالية" ومن خصائصها أن أهم شيء هيمنة رأس المال والأحتكار المالي الذي يتطلب من الأسواق الأجنبية أن تتوسع وتزود أرباحها-  فنحن نعيش في تبديل مستمر للرأسمالية الدولية التي وصفها هوبسون ولينين في اللعبة الكبرى الأولى.
منطق ذلك بسيط، رغم كونه مميت؛ يستغل الغرب الدول النامية، وتختلف منطقة قلب العالم جيوسياسياً مع بريطانيا، وتعد هذه العملية أهم سبب لثراء الغرب. أكتسبت العديد من دول الغرب هويتهم الشخصية كأمم من خلال سيطرتهم على الدول النامية تحت عباءة ا"لوطنية اللامتناهية" كما قال هوبسون.
هناك العديد من الأدوات لتحليل التطورات الحالية بما فيها "دول ما قبل الحداثة" التي تواجدت جنباً إلى جنب مع "الدول الحديثة" و"دول ما بعد الحداثة" في تشكيلة غريبة. تشرح الفصول الآتية وتتابع تطور الألعاب الأمبريالية في القرن الماضي والتطور في الأستراتيجيات المالية والعسكرية-السياسية لضمان السيطرة على موارد العالم و السمات المميزة لكل من الألعاب الكبرى التي تتوج نظام العالم الحالي.

ترجمة: معتز مؤمن


يبدو العالم لشباب اليوم كما لو كان قرية واحدة خاضعة لنظام معد سلفاً، وكأن المنطق أن يمضي التطور البشري تجاه مجتمع يتسم بالتكنولوجيا الفائقة ويخضع لاقتصاد السوق وتسيطر عليه الدولة الأكثر ثراءً ...الولايات المتحدة الأمريكية.
ولإعادة النظام للعالم يجب على الولايات المتحدة أن تتحمل عبء الإنفاق ببذخ على الوسائل الدفاعية وإلقاء القبض على الإرهابيين وإقصاء الحكام المستبدين وتحذيرالأمم الجاحدة مثل الصين وروسيا من ضرورة تعديل سياساتها حتى لا تعوق الولايات المتحدة عن مهمتها في نشر الحضارة الأمريكية دون غيرها.
أما الواقع فيخالف ذلك تماماً، فالحقيقة الوحيدة في الوصف سالف الذكر هي الهيمنة العسكرية الساحقة للولايات المتحدة على العالم حالياً، لأن الولايات المتحدة نفسها تمثل مصدراً للكثير من الإرهاب العالمي بقوات تبلغ 1.6 مليون جندي في أكثر من ألف قاعدة عسكرية حول العالم مما يعد نموذجاً صارخاً للإرهاب يتفوق بمراحل على أمثال أسامة بن لادن، وتجعل منتقدي السياسات الأمريكية خائفين على مصدر رزقهم.
بدأت أدرك حقيقة النظام العالمي مع بداية رحلتي الى إنجلترا لدراسة الاقتصاد بجامعة كامبريدج في سبتمبر 1973. حينها قررت السفر على متن السفينة عابرة المحيطات الفاخرة إس إس فرانس والتي عرضت سعراً خاصاً للطلبة هو بضع مئات من الدولارات (وعدد غير محدود من الحقائب). وعلى متن السفينة إلتقيت بعدد من الطلبة الأمريكيين المقيدين بمنحتي مارشال ورودس (أما أنا فكنت مقيداً بمنحة مكينزي كينج الأقل مكانةً) وإستنفذت كافة حيلي للاستمتاع بكل امتيازات السفر على الدرجة الممتازة، وكانت السفينة نموذجاً مصغراً للمجتمع، وكان مجتمعاً كريماً بحق أما أنا فكنت في قمة سعادتي وأردت أن أشارك الجميع بهجتي.
لكنني صدمت حيث كانت كامبريدج أيضاً نموذجاً مصغراً للمجتمع إنما مجتمع مختلف تماماً، فتعرفت في كامبريدج على العديد من الأصدقاء من أمريكا اللاتينية، وفي 11 سبتمبر من هذا العام دبرت الولايات المتحدة إنقلاباً ضد سالفادور أليندي رئيس تشيلي، وكانت هذه الأحداث بداية عهدي بالسياسة.
ظلت نظرة اليأس التي كانت تعلو وجه أحد أصدقائي التشيليين محفورةً في ذاكرتي حين أصبح لاجئاً بشكل مفاجئ كما أصبحت أسرته واصدقاؤه في خطر داهم، ومنذ هذه اللحظة بدأت مسيرتي في الدراسة والنشاط السياسي حين اتضح لي ماهية النظام العالمي من الناحية السياسية والاقتصادية، فالإمبريالية ليست شيئاً مجرداً بل هي قوة مخربة ليس من شأنها فقط تدمير الأشخاص المثاليين بل ايضا تدمير شعوبٍ بأكملها. ولذلك كان يجب إعادة النظر في الموقف من أعداء الإمبريالية وفي مقدمتهم الاتحاد السوفيتي، والذي كنت أعتبره حتي ذلك الحين إحدى قوى الشر الخطيرة في العالم.
بدأت حينئذ دراسة اللغة الروسية وعقدت العزم على تجربة حقيقة الإتحاد السوفيتي من الداخل. اتخذ نيكسون من "التهديد السوفيتي" حجة لزعزعة الثورة التشيلية ولمحاصرة كوبا ليبث الأمريكيون الذعر في قلوب الشعب الفييتنامي. فهل كان الاتحاد السوفييتي هو فعلاً إمبراطورية الشر التي تربيت على الخوف منها وكرهها طوال حياتي ؟ كان علي اكتشاف ذلك بنفسي..
بالرجوع بالنظر إلى نقطة التحول هذه في حياتي، فإنني أقف مندهشاً لوجود ثغرات في الحرب الباردة سمحت للناس برفض نموذج الرأسمالية لمعرفة من هو العدو الحقيقي. وعلى عكس نظرية مارجريت تاتشر "لا يوجد بديل" فقد كان هناك بديلاً! فسرعان ما تبخر الخوف من هذا "العدو" عند التيار السائد للمثقفين في الغرب أثناء فترات الإنفراج (من 1941 إلى 1948 ومن 1963 إلى 1968 ومن 1973 إلى 1979). كانت هذه الإستراحات القصيرة بمثابة انسحاب تكتيكي للإمبريالية في حربها طويلة الأجل لتنتظر فرصتها.
كانت دراستي تدور حول الانقلاب في تشيلي في سبتمبر 1973 وتحرير مدينة "سايجون" في ربيع عام 1975. وكانت لحظة الاحتفال بتحرير "سايجون" مع أصدقائي في كافيتيريا الجامعة محفورة في ذهني، وكأن العالم أصبح ملكنا؛ فتبين أن انحدار إمبريالية الولايات المتحدة يقابله ازدهار الاتحاد السوفيتي. كنت أدرس مع أصحاب الفكر الماركسي مثل موريس دوب و أصحاب الفكر النيوكلاسيكي مثل بييرو سرافا ولويجي باسينيتي وجوان روبينسون، لأجد نفسي فجأة أرى القرن العشرين من منظور جديد.
وفور عودتي إلى تورونتو بدأت رحلة السعي وراء ما علمت أن  اسمه "الزملاء المسافرين" ولكن لم يكونوا بالكثرة التي توقعتها. بحثت بيأس في دليل الهاتف تحت اسم الاتحاد السوفيتي ولكن لم تكن هناك حتى قنصلية واحدة للاتحاد السوفيتي في أكبر مدينة بكندا (على الرغم من وجود قنصلية بلغارية وتشيكية بل وحتى قنصلية كوبية)، وأخيراً عثرت على الزمالة الكندية السوفيتية، وهي مجموعة متنوعة متألفة أصلاً من مهاجرين سلافيين ومن شرق أوروبا ويهود وقلة من محبي السلام البروتستانت المنتمين للطبقة العليا البرجوازية المتعلمة، وهي مجموعة ودودة رغم كونها دوجماتية، ولكن دون احتمال وجود جواسيس كبار مثل كيم فيلبي. وبالنظر إلى الماضي، أعتقد أن وحدات محبي السلام كانوا أكثر وضوحاً في غيابه.
وبصعوبة شديدة ذهبت إلى موسكو عام 1979 لدراسة اللغة الروسية بجامعة موسكو من خلال الزمالة في تجربة أقل ما يقال عنها أنها تجربة غريبة لا تنسى. رغم تزايد إحساسي بالغثيان إذا مكثت في  مستشفى قذر ولكنني صمدت حتى ألقوا بنا في أماكن إقامة أوليمبية غير جاهزة لإفساح المكان لطلبة اثيوبيين جدد لأول مرة بجامعة موسكو.
إجتاح الإتحاد السوفيتي أفغانستان في ديسمبر بينما كنا نخوض في الوحل المتجمد في طريقنا إلى مسكننا الجديد، كان الانهيار اللاحق للانفراج يلوح على الساحة الدولية إحباطي مع "الأشتراكية الحقيقية القائمة"، النظام الذي لم يترك مجالاً للنقد أو الشك في مواجهة الكثير من الهراء والوحشية.
تلاشى حماسي لإشتراكية الاتحاد السوفيتي*، وبالرغم من ذلك أثناء عودتي لأمريكا الشمالية واجهت الدعاية الجنونية  والروح القتالية لأمريكا في عصر ريجان، وأيقنت أن علاقة الحب التي تربطني بالوحش السوفيتي لم تنته - فقد كان هناك بديلاً. عندما ألغى جورباتشوف الرقابة (سياسة الشفافية) وبدأ إصلاحه الاقتصادي المشؤوم (إعادة الهيكلة الاقتصادية) حصلت على وظيفة في أنباء موسكو، فتبين لي أن استعجالي بالوصول هناك لم يذهب هباءً.
كانت الاستراحات القصيرة من الحرب الباردة والمحاولة المجنونة الأخيرة الأخيرة لخلق إشتراكية أفضل تستحق الذكر. خافت الولايات المتحدة فعلياَ من بلد آخر واحترمتها، ومدت هذه البلد يدها الدبلوماسية في صداقة لتكتشف أنها انتهكت على يد "صديقتها" الجديدة. تعهد بوش الأب والابن وحالياَ أوباما ألا يسمحوا لأي بلد أن تتحدى الولايات المتحدة عسكرياً. ويالسخرية القدر الذي أفقد التفوق العسكري التقليدي معناه في زمن تفوقت فيه القنابل الحقيرة والجمرة الخبيثة.
تسبب الاتحاد السوفيتي في كوارث بيئية أشهرها جفاف بحر خوارزم، ودمرت الزراعة الجماعية تحت تهديد السلاح تقاليد الفلاح النابضة بالحياة. كانت معتقلات العمل الإلزامي السوفيتية مأساة رهيبة، ولكن الاستعمار والفاشية تسببوا في مقتل عدد أكبر من الأبرياء، كما أشترك كلاهما في العدوانية وإشعال الحروب مع البلاد الأخرى.
كان الإتحاد السوفيتي نظام دكتاتوري ذا حزب واحد، وليس إمبراطورية آخذة في الاتساع على عكس ما تربينا ونتربى على تصديقه. وبالرغم من كل عيوبه السياسية، فقد أوضح لنا مدى قابلية نظام غير رأسمالي في تنظيم مجتمع مدني متقدم تكنولوجياً؛ حيث قابلت عيوبه السياسية مثل انعدام الكفاءة والفوضوية وانخفاض المستويات والإهمال البيئي العديد من المميزات مثل التوظيف المضمون ومجانية الخدمات العامة وتوفير الاحتياجات المادية البسيطة وسهولة الحصول على الثقافة وأمن المواطنين، وهو أسلوب حياة أقل تنافسية وأكثر مساواةً كما استوعبه العالم الثالث الذي مازال ينعي رحيله.
لم أكن أعير الشرق الأوسط انتباهاً ،وهو عدو أسرائيل الأول، مفترضاً أن تعاظم القوى المناهضة للإمبريالية سيضغط على أسرائيل لعقد السلام ولكن اغتيال إسحاق رابين عام 1994 وهيمنة المحافظين الجدد حال دون استحالة حدوث ذلك.
أدى انهيار الاشتراكية إلى بقاء الإسلام وحده كقوة مناهضة للإمبريالية، والتفت انتباهي إلى أوزبكستان المتشبعة بالتراث الإسلامي في أواسط آسيا، وكانت مشاهدتي لانهيار برجي التجارة بعد 28 عاماً من انقلاب 9/11 في تشيلي في نفس التاريخ "9/11" من عام 2001 نقطة تحول كبرى بالنسبة لي في طشقند التي تسودها كآبة ما بعد الانهيار السوفيتي.
كانت ردة فعلي الفورية هي اعتقادي أن انهيارهم لم يكن نتاج عمل مجموعة من المسلمين غير المدربين يقودهم شخص من كهف في أفغانستان المجاورة، ولكن بعد البحث المتعمق تأكد لي أن أحداث 2001 كانت مرتبطة بإمبريالية الولايات المتحدة وإسرائيل أكثر من ارتباطها بالإسلام.
كم أنا محظوظ لكوني عشت حياتي في كلتا الناحيتين من الستار الحديدي للاتحاد السوفيتي وحالياً أعيش في قلب العدو المفترض الحالي العالم الإسلامي، مما أعطاني فرصة اختبار واقع مختلف عن طريق التخلي عن تراثي الغربي لرؤية كيف يواجه الغرب البلاد والثقافات الأخرى ويتلاعب بها. هناك العديد من أمثال هذه الرحلات الاستكشافية قام بها أشخاص نضجوا سياسياً، أتمنى أن تقدم أفكاري الفرصة للقراء أن يتخلوا عن إطارهم المرجعي وتساعدهم في فهم الألعاب التي نجبر على لعبها.

*  ملحوظة على استخدام مصلحات الاشتراكية والرأسمالية والإمبريالية: يشير مصطلح الاشتراكية إلى النظرية كما قدمها ماركس ومحاولات تحقيق النظرية كما تجسدت في التشكيلات الأجتماعية لروسيا ما بعد 1917 وأوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، أما الرأسمالية والإمبريالية فقد ابتعدوا تماماً عن النظرية على الرغم من أنهم مستلهمون من ماركس، فيستبدل النقاد "الاشتراكية" بلفظ "رأسمالية الدولة" كما يحلو لهم، ولكن هذا لا يقلل من الفكرة العامة للأشتراكية هنا فأنا أتعامل مع مصطلحي الرأسمالية والإمبريالية كمصطلحات علمية مثلما استخدمها ماركس ولينين. أضحى الاتحاد السوفيتي ديكتاتورية قاسية تحت حكم ستالين، ولكن المنطق وراء الاتحاد السوفيتي وعلاقاته بأوروبا الشرقية لم تكن إمبريالية. لاستخدام هذه الألفاظ بشجاعة للإشارة إلى التشكيلات الأجتماعية غير الرأسمالية سوف يقلل من النبش في أنقاض الملكية الفكرية ل9/11، وهي استعارة ملائمة لكيفية تحكم الولايات المتحدة الرأسمالية بالفكر لمنع أي معارضة من الترسخ والثبوت.



مقدمة
الجيوسياسية والألعاب الكبرى
" تركستان وأفغانستان وترانسكاسبيا و بلاد فارس، تمثل هذه الاسماء للكثيرين إحساساً بالعودة إلى الماضي البعيد أو ذكرى لتقلبات عجيبة ولرومانسية احتضرت. ولكن بالنسبة لي فأنا أعترف أنها قطع من الشطرنج يتم التلاعب بها في لعبة للسيطرة على العالم "
اللورد كارزون، الحاكم العام للهند (1898)

من يحكم شرق أوروبا يتحكم في محور العالم
ومن يحكم محور العالم يتحكم في قارات العالم القديم
ومن يحكم قارات العالم القديم يتحكم في العالم
هالفورد مكيندر (1919)


جيوسياسية آسيا الوسطى والشرق الأوسط

صيغ مصطلح «اللعبة الكبرى» في القرن التاسع عشر لوصف الصراع بين روسيا و بريطانيا حيث أرسلت بريطانيا جواسيس متنكرين في هيئة باحثين وتجار إلى أفغانستان وتركستان وأرسلت في العديد من الأحيان جيوشاً لإيقاف الروس عند حدهم. لقد عجلت المخاوف من قيام الروس بالإعتداء على مصالح بريطانيا في الهند في شن الحرب الأفغانية-البريطانية المشؤومة [1839-1842]، وهذا بعد أن  تمكنت روسيا من فرض وجود دبلوماسي وتجاري لها في أفغانستان. وبحلول القرن التاسع عشر لم تعد هنالك ما تسمى أرضاً حيادية، فأصبح العالم عن بكرة أبيه ملعباً عملاقاً للقوى الصناعية العظمى وأصبحت منطقة أوراسيا منتصف هذا الملعب.
يفيد تعبير "اللعبة" في وصف التنافس حامي الوطيس ما بين الأمم والنظم الاقتصادية مع تصاعد الإمبريالية والسعي وراء السيطرة على العالم،  وتتجاوز هذه اللعبة الصراع الروسي – البريطاني على افغانستان لتصل إلى قلب منطقة أوراسيا التي تضم آسيا الوسطى والشرق الأوسط معاً وهو ما كان يسمى فيما مضى بتركستان، وإمبراطورية بلاد فارس والخلافة العثمانية التي تشمل الفرس والأتراك والعالم العربي، وهي شعوب معظمها من المسلمين.
تختلف منطقة أوراسيا من الناحية الجيوسياسية عن منطقة أمريكا الشمالية والجنوبية والتي كانت تخضع لسيطرة محكمة من الولايات المتحدة منذ إعلان "مبدأ مونرو" والذي يعد أكثر المبادىء الجيوسياسية رسوخاً وهو يروج لفكرة الإكتفاء الذاتي القومي والقاري وفرض سيطرة القوة المهيمنة  لتحقيق السيادة والمصالح الاقتصادية على حدٍ سواء. تمنع الطبيعة الجغرافية لأمريكا تدخل أي من منافسيها في هذا الوضع على عكس منطقة اوراسيا مترامية الأطراف والتي تمتد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً والتي تضم أكثر من 80 في المئة من سكان العالم ويتنازع العديد من المتنافسين لفرض سيطرتهم عليها.
بدأت هذه الدراسة لجيوسياسية منطقة أوراسيا مع إشتراك الولايات المتحدة في المنافسة في مطلع القرن العشرين عندما كانت بريطانيا، بوصفها القوة المهيمنة الأكبر، تضع خطط لعبتها الاستعمارية للمنطقة على حساب القوى الامبريالية الأخرى.
يشير مصطلح الجيوسياسية إلى إستخدام السياسة للسيطرة على المناطق من أجل مواردها ولأسباب تاريخية وأسباب اجتماعية وسياسية حيث توجد بهذه المناطق أماكن جغرافية معينة ذات أهمية إستراتيجية أكثر من غيرها. عادةً ما يقترن هذا المصطلح باسم الخبيرالسياسي والجغرافي "هالفورد ماكيندر" أوائل القرن العشرين رغم اعتقاده بأن هذا المصطلح مضلل وخيالي ويؤدي إلى مقارنات خاطئة. كان البروفيسور كارل هاوسهوفر – وهو من ميونخ- أكثر حماسةً بشأن التلاعب بمفهوم التنافس والتعاون الإقليمي معاً في منطقة محور العالم لبزوغ نظام أوروبي جديد يؤدي في نهاية المطاف لنظام جديد لمنطقة أوراسيا، نظام لا تسيطر عليه بريطانيا ولكن ألمانيا بالتعاون مع روسيا ويواجه القوة الأنجلو-أمريكية. وكانت بريطانيا تعتمد على القوة البحرية لاحتواء القوى الموجودة بمنطقة محور العالم، وتحديداً ألمانيا.
أشار فريدريك راتزل في كتابه Lebensraum عام 1901 أن الحدود البرية لمنطقة أوراسيا مترامية الأطراف تعد حدوداً إعتباطية يمكن تغييرها لتلبي الإحتياجات المتزايدة للسكان والصناعة (من وجهة نظر الألمانيين هاوسهوفر وراتزل). وضع راتزل نظرية أن الدول منشآت إصطناعية عضوية ومتنامية يرتبط فيها الأرض وما عليها من ناس بعلاقة روحية، وأن حدود أي أمة سليمة ومعافاة لابد من أن تتوسع. هذا هو مبدأ مونرو ومبدأ القدر المحتوم المتزامنان بالنسبة لقارة أوراسيا.
 
شكل 1: خريطة آسيا الوسطى والشرق الأوسط

شكل عنصرا منطقة أوراسيا وهما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، طريق الحرير الأسطوري المكون من عدة مسارات بغرض التبادل الثقافي والتجاري والتكنولوجي بين التجار والحجاج والبعثات التبشيرية و الجنود والبدو الرحل القادمين من الصين والهند والتيبت وبلاد فارس ودول البحر الأبيض المتوسط، ويرجع تاريخ هذا الطريق إلى القرن الثالث قبل الميلاد مستمداً اسمه من تجارة الحرير الصيني المربحة.
 
شكل 2: خريطة لقلب العالم
مع إنتشار الإسلام في القرن السابع اتحدت كل البلاد على المسارات الرئيسية لطريق الحرير، بخلاف الصين، في مواجهة الغرب المسيحي/ الوثني/ اليهودي بينما كانت الخلافة الإسلامية، والتي كان مقرها دمشق في عهد الأمويين ثم بغداد في عهد العباسيين،توحد هذه المساحة الشاسعة تحت راية الإسلام. إجتاح المغول، الذين أعتنقوا الديانة الشامانية من قبل ثم إعتنقوا الإسلام فيما بعد، منطقة أوراسيا بالكامل ما بين القرن 13 و14 لتتوحد مع الصين، وأعاد المسلمون التيموريون توحيدها ما بين القرن ال14 و ال15.
وبمرور الزمن، تفكك هذا الشكل الأولي للإمبراطوريات إلى إقطاعيات قبلية في الشرق والخلافة العثمانية في الغرب ولكن دون أن تظهر دول متحدة عرقياً على النمط الغربي أو النظام الاقتصادي الرأسمالي.
إتحد الشرق الأوسط تحت راية العثمانيين إبتداء من القرن الرابع عشر، بينما بدأت تركستان (آسيا الوسطى) وطريق الحرير رحلة الإنحدار من بعد التيموريين نتيجةً لبزوغ التجارة البحرية الغربية وبالتالي ظهور إمبراطوريات غربية متصلة بالشرق عبر طرق المواصلات البحرية.
ضمت روسيا معظم تركستان خلال الفترة من القرن 17 حتى القرن 19 بدايةً بكزاخستان ومنطقة القوقاز، وأدى التنافس البريطاني والذي أصبح معروفاً باسم اللعبة الكبيرة إلى عدة محاولات من جانب بريطانيا لقمع أفغانستان في القرن التاسع عشر توجت بتوقيع إتفاقية مع روسيا عام 1890 لتظل أفغانستان منطقة محايدة.
" في عام 1907 وقع كل من وزير الخارجية الروسي الكونت أليكساندر إيزفولسكي والسفير البريطاني سير أرثر نيكلسون معاهدة سرية في سانت بطرسبرج حدد فيها كلا البلدان مصالحهما الإمبريالية في آسيا الوسطى، حيث وافقت الحكومة الروسية على أن تقع أفغانستان في دائرة نفوذ بريطانيا، وفي المقابل تعهدت بريطانيا ألا تعارض بسط سيطرة حكم القيصر الروسي على باقي آسيا الوسطى" ، وأكدت الصين مطالبتها بتركستان الشرقية (مقاطعة شينجيانج) عام 1877. ومن هنا تشكلت مناطق النفوذ التي استمرت بشكل أو بآخر حتى يومنا هذا.
كان إنحدار الوضع في الشرق الأوسط أبطأ لاتصاله بالغرب من خلال التجارة. أثناء لعبة القرن التاسع عشر الإمبريالية، والتي سميتها هنا " اللعبة الكبرى الأولي"، أبقت بريطانيا على أفغانستان وإيران و الخلافة العثمانية كتشكيلات سياسية مستقلة اسماً رغم خضوعها للمصالح البريطانية. كانت بريطانيا تتابع إدارة مصالحها في أفغانستان وإيران جيداً ولكن بالنسبة للخلافة العثمانية فقد أدى ضعف الحكم  إلى تحويل الخليفة العثماني إلى لاعب محايد ومفيد يسمح للعديد من القوى الإمبريالية بممارسة التجارة في المنطقة دون اللجوء إلى الحرب.
تغير الموقف جذرياً مع الحرب العالمية الأولى، فحلت الحرب ككارثة على كل القوى الإمبريالية الأوروبية، وكانت الثورة الروسية عام 1917 إعلاناً للحرب على النظام الإمبريالي نفسه فحفرت نقطة البداية لما أطلق عليه هنا "اللعبة الكبرى الأولى" وهي الحرب الباردة بين الإمبريالية والشيوعية، حيث اتحدت الولايات المتحدة مع منافسيها السابقين بريطانيا وألمانيا وفرنسا وأخرين لمحاربة القوى المعادية للإمبريالية بالرغم من أن هذه اللعبة لم تبرز صراحةً حتى إنتهاء الحرب العالمية الثانية. ويمكن تسمية الفترة من 1917 حتى الحرب العالمية الثانية " المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى".
فضح الاشتراكيون الروس الخطط البريطانية لتقسيم الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الثانية عندما نشروا المراسلات الدبلوماسية البريطانية مع القيصر نيكولاس الثاني مثلما فضحت الويكيليكس الأكاذيب الدبلوماسية في 2010، ومع ذلك شرعت بريطانيا عام 1918 في تقسيم الخلافة العثمانية كنوع من التسوية السياسية في المنطقة مع غريمتها فرنسا، أما ألمانيا وروسيا فلم يصبحوا ذو أهمية. تقسمت الخلافة العثمانية إلى أشباه مستعمرات "الانتداب" باستثناء منطقة الأناضول التركية في خطة متطرفة لخلق دولة يهودية في قلب فلسطين.
أصبحت تركستان الآن جزءاً من تشكيل اشتراكي سياسي اقتصادي جديد، وظلت حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية وبانهيار الاتحاد السوفيتي بمنأى عن الإمبريالية كجزء لا يتجزأ من خلافة علمانية لا تعني فيها الحدود الكثير يتحد فيها الناس على إيمان شديد بالاشتراكية بدلاً من الإيمان بالقومية أو بدينٍ ما. في العشرينات من القرن التاسع عشر قسم الاتحاد السوفيتي تركستان على حسب العرقيات إلى تقسيمات إدارية شكلية: أوزبكستان وكزاخستان وطاجيكستان وقرجيستان وتركمنستان (بترتيب الكثافة السكانية) بالاضافة إلى أذربيجان، وتطوروا طبقاً للخطط المركزية السوفييتية محققين مستوى معيشة مرتفع مقارنةً بجيرانهم غير الاشتراكيين أفغانستان وايران وباكستان المستعمرة، ولكن كان ذلك على حساب الاسلام الذي كان في حالة من القمع الشديد.
وحيث لم يبدو الاتحاد السوفييتي آنذاك كخطر داهم للهند البريطانية، فقدت أفغانستان ذات الحكومة الملكية الضعيفة أهميتها الجيوسياسية كأحدى المعابر الروسية للهند أثناء المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى، وكانت إيران - والتي تمتد بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى-هي الأخرى ذات حكومة ملكية ضعيفة ولكن في أواخر القرن التاسع عشر ذاع صيتها بشكل أكبر من أفغانستان بكثير نظراً لاكتشاف المخزون الوفير من البترول هناك وهو البديل العملي للفحم كوقود لتشغيل هذه الامبراطورية المتنامية. كانت إيران محتلة من قبل بريطانيا والإمبراطورية الروسية خلال الحرب العالمية الأولى، ومرة أخرى من قبل بريطانيا والاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية أثناء المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى لمنعها من الانحياز لألمانيا ولضمان الوصول لبترولها حتى أصبح دورها حيوياً لدعم الإمبراطورية في المرحلة النهائية للعبة الكبرى الأولى ولكن اختلف دورها جذرياً بحلول المرحلة النهائية للعبة الكبرى الثانية.
تعد المرحلة النهائية للعبة الكبرى الثانية – إحتواء ريجان للاسلاميين وانهيار الاتحاد السوفييتي إنقلاباً في الأحداث؛ فالحقيقة فعلاً أغرب من الخيال.
فبانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الأشتراكية في ما بين 1989 و1991 وبداية ما أطلق عليه هنا اللعبة الكبرى الثالثة، أتحدت منطقتا الشرق الأوسط وآسيا الوسطى مرة أخرى في طريق الحرير الجديد الذي يمتد من الصين حتى ايطاليا مثلما كان منذ الف عام، فقد أصبح متاحاً مرة أخرى لكل الوافدين آخذاً في طريقه سبعة عشر هيئة سياسية جديدة على الأقل: الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة من البوسنة وكرواتيا ومقدونيا والجبل الأسود والصرب وسلوفينيا وكوسوفو في البلقان، وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا في جنوب القوقاز، كزاخستان وقرجستان وطاجيكستان وتركمنستان وأوزبكستان في آسيا الوسطى، ومولدوفا وأوكرانيا في أوروبا الشرقية.
ولكن بدلاً من أن يتحدوا تحت لواء الاسلام أو المغول، يتحدوا اليوم تحت حكم الولايات المتحدة وقواتها العسكرية متعددة الأطراف متمثلة في حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، تكشف محطات التوقف في مسيرة قافلة الناتو للقرن الواحد والعشرين من المحيط الأطلنطي إلى الحدود الصينية عن طبيعة اللعبة الحالية؛ فلكل البلاد سالفة الذكر شراكات رسمية مع الناتو، وجمهوريتان من يوغوسلافيا السابقة وهم سلوفينيا وكرواتيا أصبحتا أعضاء كاملين، ومعظمهم قد وفر الجنود لحروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. للولايات المتحدة قواعد عسكرية في كوسوفو وقرجستان وطاجكستان، وتسلح القوات المسلحة الجورجية بشكل مباشر وتدربهم وتحتل العراق وتشن حرباً في أفغانستان من باكستان.
تعد المنطقة من البلقان حتى حدود الصين احدى مكائد الحرب منذ قرنٍ مضى، وخاصةً الآن أكثر من أي وقت مضى، لذا تبدي الناتو التابعة للولايات المتحدة شديد اهتمامها بملتقى الطرق هذا لما له من أهمية من الناحية الأستراتيجية الجيوسياسية: سيطرة الولايات المتحدة هناك تعني السيطرة على روسيا والصين وإيران، الذين يمثلون حلم الخبراء الأستراتيجيين البريطانيين في اللعبة الكبرى الأولى وحلم الخبراء الأستراتيجيين الأمريكيين في اللعبة الكبرى الثانية والثالثة. بالأضافة لأحتوائها على معظم المصادر البتروكيماوية من السعودية والخليج العربي في الجنوب حتى كزاخستان في الشمال وإيران في الشرق.
فقد يفسر هذا بالطبع سبب حرص الولايات المتحدة على الأحتفاظ بها والسيطرة عليها ومراهنتها بكل ما تملك من أجل هذا الهدف طوال العقد الماضي؛ حيث وقعت الثلاث حروب الكبرى التي شاركت فيها الولايات المتحدة في العقد الماضي جميعهم على طريق الحرير الأسطوري: يوغوسلافيا (1999) وأفغانستان (2001) والعراق (2003).
لا تملك أي من بريطانيا أو الولايات المتحدة أو الناتو حق غزو أي من هذه البلاد، فبالأحرى في أي سيناريو سلمي للمنطقة يجب أن تتحد قواتها للأرتقاء بالمستوى الاقتصادي والأمني للمنطقة، أما المزيد من الحروب فلن تؤدي إلا إلى المزيد من المآسي لكافة الأطراف. ولكن هذه الحروب بعيدة كل البعد عن واشنطن، وتدار بشكل متزايد عن بعد من خلال لوحات تحكم بالكمبيوتر من أماكن متواضعة بالضواحي مثل قاعدة ماكديل الجوية بفلوريدا، مقر القيادة المركزية للولايات المتحدة، بدلاً من وجود قوات برية تحوم في صحاري العدو وجباله. مع العلم أن القوى المحرضة على الحرب غير منطقية بأي شكل من الأشكال.
على كل حال كان بالنسبة لروبرت جايتس مستشار مجلس الأمن القومي للرئيس كارتر عام 1979 قمة المنطق مساعدة الأسلاميين في التمويل والتسليح في أفغانستان للتغلب على الاتحاد السوفييتي، أما واضعي الخطط في البنتاجون أو في مقار الناتو ناقشوا "بالمنطق" في 2010 أن موجة عاتية من قنابله في أفغانستان من شأنها إحلال السلام في المنطقة، وفي حالة فشل هذه الخطة فعلى الأقل ما سببوه من فوضى هو بعيداً عنهم، السلام الوحيد الذي جلبته الولايات المتحدة حتى الآن في اللعبة الكبرى الثانية والثالثة هو سلام الموتى.
وبعد سبعة قرون تلاقى مصيري الشرق الأوسط وآسيا الوسطى مرة أخرى، ولكن اليوم تتكون هذه المنطقة الفسيحة المليئة بعشرات المجموعات العرقية والقبائل والعشائر بشكل كبير من دول اصطناعية نتيجة مبدأ "فرق تسد" الاستعماري الذي يحرض الشعوب التي لم تخوض مثل هذه الحروب الطاحنة والغزوات منذ القرن الرابع عشر على التفرقة، تكتشف هذه المنطقة الفسيحة لمرة أخرى جذورها المشتركة في الاسلام، أما عن زعماء المعارضة والمقاومة، الولايات المتحدة وإسرائيل، فهم عاقدين العزم والنية على تمزيق المنطقة إلى أشلاء.
 الألعاب الكبرى وكونها متغيرات للأمبريالية:
الأهداف:
إن هدف الأمبريالية وكل الألعاب المذكورة هنا هو إحداث تغيرات على النمو الاقتصادي واصطياد الربح و(للاستهلاك العام) الارتقاء بمستوى الشعوب المتأخرة التي يطلق عليها روديارد كيبلنج الاسم المشين
" عبء الرجل الأبيض" رغم كونه لا يشير إلى الأمبراطورية البريطانية ولكنه يشير إلى الحرب الأمريكية ضد الفلبين المبررة على أنها عمل نبيل:
هيا ابعثي بأفضل ما عندك من شباب، اذهبي وابعثي أولادك إلى المنفى
حتى نخدم مطالب من تستعمرينهم
من خلال الحروب الوحشية من أجل السلام
فالهدف الخفي أعمق من مجرد إرسال الابناء لخدمة من تستعمرهم في حروب من أجل السلام، بل هو لمصادرة فائض ثروات البلاد الأضعف وهي البلاد النامية، فيكون إندماجهم في إقتصاد الأمبراطورية –المركز- في شكل تبعي ومربح، ولضمان عدم حصول قوى إستعمارية أخرى على نفس الفرصة عرف لينين الأمبريالية على أنها:
الرأسمالية في تلك المرحلة من التنمية التي أثبتت هيمنة الاحتكار ورؤوس الأموال الأستثمارية نفسها فيها؛ التي أكتسب فيها استيراد رأس المال أهمية واضحة؛ التي بدأ فيها تقسيم العالم على حسب الأئتمان الدولي؛ التي أكتمل فيه تقسيم مناطق العالم أجمع على أكبر القوى الرأسمالية.
كان إزدهار الأمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر بكل عظمته وتلاعبه الساخر بالحشود تطوراً ملحوظاً وبحق كما قال جون أتكينسون هوبسون عام 1902:
إن الأمبريالية هي مجرد بداية لإدراك مواردها كاملة، لتتطور إلى فن بديع لإدارة الأمم: هبة كبيرة مثل حق الأمتياز يمارسها أشخاص بلغوا قدراً من التعليم يعطيهم قدرة سطحية على قراءة المواد المطبوعة، تشبه جداً رجال الأعمال السياسيين الذين من خلال تحكمهم في الإعلام والمدارس وإذا لزم الأمر الكنائس يطبقون الأمبريالية على الحشود تحت مظهر الوطنية اللامتناهية.
فقد رأى كيف تهييء الرأسمالية الساحة لأول مرة في التاريخ للسيطرة الكاملة على العالم، وهو الهدف الذي يسعى إليه إمبرياليين اللعبة الكبرى الأولى، جاعلين من الطبقة الكادحة البريئة شريكة في جريمتي القتل والسرقة.
طوال قرابة قرنين مر الكفاح المبذول للوصول لهدف السيطرة على العالم بشتى المراحل، أما اللعبة الحالية "اللعبة الكبرى الثانية" تختلف تمام الاختلاف عما قبلها رغم تشابههم مع الألعاب السابقة:
⦁    يوجد الآن بديلاً للمؤسسات المالية للعبة الكبرى الأولى، تحديداً لعائلة روتشيلد، بوجود صندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات المالية العالمية.
⦁    يشمل الملعب أو النطاق الجيوسياسي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى معاً مرة أخرى كما كان في اللعبة الكبرى الأولى، بوجود أشرس المعارك في أفغانستان مرة أخرى.
⦁    يوجد تنافس جيوسياسي كما كان في اللعبة الكبرى الأولى، ولكن التنافس الآن ليس بين القوى العظمى فقط بل بين الفرق الأستعمارية نفسها فعلى سبيل المثال بين الولايات المتحدة وأسرائيل بدلاً من التنافس الصريح بين بريطانيا والمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، والتنافس الأكثر تعقيداً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في اللعبة الكبرى الثانية.
⦁    تحولت معاهدة الدفاع في اللعبة الكبرى الأولى ضد الشيوعية والناتو لتبرير الهدف الأسمى
⦁    يوجد عدو مشترك كما كان في اللعبة الكبرى الثانية، ولكنه عدو من نوع مختلف تماماً، من النوع الذي لا يقهر أبدا.
استخدم اللاعبون استراتيجيات مطورة على مدار القرن الماضي في الألعاب السابقة بالإضافة إلى حيل جديدة مستخدمين أحدث تكنولوجيا للسعي وراء هدف عتيق وهو السلطة والسيطرة على الموارد.
ولكن الآن تختبر المنطقة بأسرها ثورات وصراعات غير مسبوقة، اما الفرق المشتركة في لعبة استخراج الفائض تشمل الآن كل القوى العظمى في العالم لتغيير التحالفات بما فيها تركيا وإيران وباكستان والهند والصين، جميعهم بعلاقاتهم التاريخية والثقافية وأهدافهم و موطيء نفوذهم والذي يجب وضعه في الأعتبار في ضوء محيطهم. وجود أسرائيل الشاذ في منتصف اللعبات الثلاث؛ كمتفرج في اللعبة الكبرى الأولى، كبؤرة استيطانية في الشرق الأوسط في اللعبة الكبرى الثانية، وكلاعب عالمي مستقل في اللعبة الكبرى الثالثة متحالف في بعض الأحيان مع الولايات المتحدة ومنافس حقيقي لكل اللاعبين الكبار.
كانت الأهداف الجيوسياسية والاقتصادية للعبة الكبرى الأولى (الأمبراطوريات المتنافسة) والثانية
(الأمبريالية ضد الشيوعية): 1- ألا تخسر تأثيرها 2- أن تجني الثروات بقدر الإمكان، فهي لعبة ذات مجموع صفري. أما في اللعبة الكبرى الثالثة فالأهداف أكثر تعقيداً لأن كثرة اللاعبين يصعب معها توحيدهم، وتستمر الأمبراطورية في سباق السيطرة على العالم الذي يحدث في كافة بقاع العالم لتسبب العديد من المتغيرات في اللعبة جاعلة المجموع غير صفري.
الاستراتيجيات
يتطلب استخراج الفائض سيطرة سياسية مباشرة أو غير مباشرة على الدول النامية. فضلت القوى الأستعمارية للعبة الكبرى الأولى والقوى الأستعمارية الجديدة للعبة الكبرى الثانية والثالثة الأعتماد على الوسائل التجارية والمالية، ولكن إذا أقتضت الضرورة سيصلوا لأهدافهم من خلال الحرب.
أسفرت هذه السيطرة عن عدة نتائج مختلفة؛ فالدعائم أو أساسيات هذه الهيمنة الأمبريالية هي مالية وعسكرية- سياسية لضمان السيطرة على القوة العاملة والمواد الخام، تتضمن آلية التمويل "شروط التجارة" التي تفيد الغرب ومؤسسات الإقراض بالفائدة، وتكمل المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي عمل ممولي القطاع الخاص الدوليين للعبة الكبرى الأولى في ضمان استخراج الفائض، مع العلم أن صندوق النقد الدولي من إنشاء الغرب وهو المسيطر عليه لتسهيل هذه العملية، وعلى الدول النامية إتباع مايملى عليهم. تستبدل تجارة العبيد، التي تعتبر عماد استخراج الفائض في اللعبة الكبرى الأولى، بالعمالة الخارجية بالأضافة إلى شبكة واسعة من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من الدول النامية إلى الغرب المشتت طامحين في أي فرصة عمل بغض النظر تحت أي ظروف وفي أي مكان.
تتضمن آلية الأمبريالية السياسية خلق كيان استعماري، وفي اللعبة الكبرى الثانية والثالثة خلق كيان استعماري جديد مستقل عن الغرب. الدول النامية وهي اليوم دول العالم الثالث مرت بنهج مختلف تماماً لتكوين أمة بعيدة عن الغرب، فهذه الدول إما نشئت نتيجة حروب دامية للحصول على استقلالها كما في أمريكا اللاتينية وآسيا أو ولدت عن قوة أمبريالية لها حدود كان المقصود بها إشعال فتيل فتنة طائفية وعرقية مما يؤدي إلى تلاعب خارجي.
كان هذا مصير معظم مستعمرات الشرق الأوسط، بل وكان متعمد إلى حد كبير. وبصفة بريطانيا المنتصر الرئيسي في اللعبة الكبرى الأولى، أتبعت استراتيجية "فرق تسد" في الشرق الأوسط والتي تهدف إلى خلق سلسلة من البلاد العربية الضعيفة الخانعة وبؤرة استيطانية أوروبية في منطقة حيوية بالنسبة للأمبراطورية الأنجلو-أمريكية. تسبب الاحتلال البريطاني ومن بعده تقسيم الهند الرهيب في اشتعال الأزمات التي أصبحت محوراً لصراعات اللعبة الكبرى الثانية في آسيا الوسطى.
ففي تعريف كلاوزفيتز " الحرب هي تكملة السياسة ولكن بطريقة أخرى"، فيمكن استخدام "القوة العسكرية" ولكن هناك العديد من استراتيجيات وأساليب "قوة الجذب" التي تستخدم بدلاً من أو بالاضافة إلى  الحرب  كجزء من الترسانة السياسية. تسمى هذه القوة "ما وراء السياسة" - استخدام القوة السياسية بوسائل خفية والتي يمكن أن تتحول إلى " تعمق سياسي" – أو الفعل ورد الفعل لقوى غير معترف بها ولا يسيطر عليها عملاء ماوراء السياسة الأصليون.
يوجد بجانب المؤسسات الرسمية للأمبريالية مؤسسات غير رسمية تتضمن القرصنة والقرصنة المنظمة من الدولة وهي أحدى الطرق التقليدية التي استخدمها الغرب لمصادرة ثروات الدول النامية (العبيد والذهب في أغلب الأحيان) وأشهر من فعل ذلك الأسطوري فرانسيس دراك. حولت الرأسمالية القرصنة إلى مجموعات من المافيا في اللعبة الكبرى الأولى والثانية والثالثة أحدثهم وأقواهم المافيا الروسيا أو المافيا اليهودية، وأصبح القراصنة المنظمين أوالمرتزقة لاعب أساسي في اللعبة الكبرى الأولى، وأصبح هاماً مرة أخرى لنجاح اللعبة الكبرى الثانية.
لم تعترف الولايات المتحدة قط بكونها أمبراطورية رغم مبدأالقدر المحتوم لأمريكا الأستعمارية ومبدأ مونرو والحرب مع أسبانيا الأستعمارية على الفلبين وكوبا ورغم الحروب في كوريا وفييتنام والحروب القائمة، ورغم حقيقة كونها أستفادت بشدة طوال الألعاب من عملية استخراج الفائض من الدول النامية، وهذا صحيح بالمقارنة بالقوى الأستعمارية الأوروبية في اللعبة الكبرى الأولى، فقد كانت بريئة نسبياً خاصةً فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
دعا المحللون البريطانيون مثل روبرت كوبر المستشار الأوروبي ومستشار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى "نوع جديد من الأمبريالية" تتحمل فيها الدول الغربية "المسئولية السياسية لمناطق الفوضى ... فيبدو وكأن جميعنا أمبرياليين الآن"، أما تعريف لينين القديم للأمبريالية بوصفها "المرحلة الأخيرة للرأسمالية" ومن خصائصها أن أهم شيء هيمنة رأس المال والأحتكار المالي الذي يتطلب من الأسواق الأجنبية أن تتوسع وتزود أرباحها-  فنحن نعيش في تبديل مستمر للرأسمالية الدولية التي وصفها هوبسون ولينين في اللعبة الكبرى الأولى.
منطق ذلك بسيط، رغم كونه مميت؛ يستغل الغرب الدول النامية، وتختلف منطقة قلب العالم جيوسياسياً مع بريطانيا، وتعد هذه العملية أهم سبب لثراء الغرب. أكتسبت العديد من دول الغرب هويتهم الشخصية كأمم من خلال سيطرتهم على الدول النامية تحت عباءة ا"لوطنية اللامتناهية" كما قال هوبسون.
هناك العديد من الأدوات لتحليل التطورات الحالية بما فيها "دول ما قبل الحداثة" التي تواجدت جنباً إلى جنب مع "الدول الحديثة" و"دول ما بعد الحداثة" في تشكيلة غريبة. تشرح الفصول الآتية وتتابع تطور الألعاب الأمبريالية في القرن الماضي والتطور في الأستراتيجيات المالية والعسكرية-السياسية لضمان السيطرة على موارد العالم و السمات المميزة لكل من الألعاب الكبرى التي تتوج نظام العالم الحالي.

 



ترجمة: معتز مؤمن

Receive email notifications when new articles by Eric Walberg are posted.

Please enable the javascript to submit this form

Connect with Eric Walberg



Eric's latest book The Canada Israel Nexus is available here http://www.claritypress.com/WalbergIV.html

'Connect with Eric on Facebook or Twitter'

Canadian Eric Walberg is known worldwide as a journalist specializing in the Middle East, Central Asia and Russia. A graduate of University of Toronto and Cambridge in economics, he has been writing on East-West relations since the 1980s.

He has lived in both the Soviet Union and Russia, and then Uzbekistan, as a UN adviser, writer, translator and lecturer. Presently a writer for the foremost Cairo newspaper, Al Ahram, he is also a regular contributor to Counterpunch, Dissident Voice, Global Research, Al-Jazeerah and Turkish Weekly, and is a commentator on Voice of the Cape radio.

Purchase Eric Walberg's Books



Eric's latest book The Canada Israel Nexus is available here http://www.claritypress.com/WalbergIV.html