«بَعْدُ العَلْمانيّةِ» في سياق «النُّمْذُوجُ الجديد»
عبد الجليل الكور
«[نظُنّ أنّ العَلْمانيّة يجب عليها أن تتناول العلاقة بين الدولة والدين، في حين أنه يجب عليها بالفعل أن تتناول [مدى صواب] تجاوُب الدولة الدِّمُقراطيّة مع التنوُّع.» (شارل تيلور)[1]
الذين اكتشفوا "العَلْمانيّة" مُتأخِّرين لا يرون في الأُفق حلًّا من دُونها لأنّهم يُعَدّون، بفعل ضرورةٍ مجهولة لهم، "سَلفيِّين" يَتّبعون من سَبقهم إلى تجريبها فـﭑنتهى إلى القول بأنّها الحلّ في سياقه الخاص. وبما أنّهم لا يجدون سبيلا لتغطية كَسلهم الفكريّ إلّا بادّعاء "العقلانيّة" والتّظاهُر بمُمارسة "التّنوير"، فإنّهم سيجدون في عبارة «بَعْد العَلْمانيّة» شيئا عُجابا، بل حديثا نُكُرًا!
ولا بُدّ، أوّلا، من الإشارة إلى أنّ من يجد عبارة «بَعْد العَلْمانيّة» غريبةً إلى حدّ الاشتداد في إنكارها أو استنكارها لا يكتفي فقط بالدّلالة على سَلفيّته المُضمَرة، وإنّما يُؤكِّد أيضا أنّ النُّسخة التي بين يديه من "العَلْمانيّة" قد صارت - رُبّما في غفلةٍ منه- مُتقادِمةً جدّا. ذلكـ بأنّه لا غرابة في عبارة «بَعْد العَلْمانيّة»، على الأقل لدى من كان على دراية بالمُنْقلَب الجاري في واقع العالَم المُعاصر: لا أقصد، طبعا، من حيث كونُها عبارة استُعمل فيها "الظرف" اسما مُعْرَبا ومُضافا إليه (تقريبا، كل الظروف في "العربيّة" تَقبل هذا التّركيب لكونها مجرد "أسماء": «غَدُ الإنسان»، «أَمْسُكَـ الطيِّبُ»، «شِمالُ الدّار»، إلخ.) ؛ وإنّما أقصدُ أنّ الحديث عن معنى "البَعْديّة" بالنِّسبة إلى "العَلْمانيّة" لا يُستغرَب إطلاقا في ظلِّ ابتذال الحديث عن "البَعْديّة" بالنِّسبة إلى "الحداثة" برُمّتها كما تَحكيه ألفاظٌ مثل «بَعْدُ الحديث» (Post-modern) أو «بعدُ الحداثة» (Postmodernity) أو «بعدُ الحَداثيّة» (Post-modernism) أو «بعدُ البنيويّة» (Post-structuralism).
ومن ثَمّ، فإن تعبير «بَعْد العَلْمانيّة» يُشير إلى أنّ «العَلْمانيّة»، هي أيضا، لها «ما بَعْدها» الذي هو «ما يأتي بَعْدها» أو «ما يَتجاوزُها». ومن البيِّن أنّه لا مَناص لمن يَدّعي نِسْبيّة "العَلْمانيّة" من قَبُول مُصطلَح «بَعْد العَلْمانيّة» إذَا كان فعلا لا يُريد أن يبقى من ضحايا «السَّلَفيّة العَلْمانيّة» في إصرارها على أنّ "العَلْمانيّة" – بالضبط كما آل إليها تاريخُ المجتمعات الغربيّة- تُمثِّل «نهايةَ التاريخ»!
ولعلّ وُجود مُصطلحات إنجليزيّة مثل «after secularism» أو «Post-secular» أو «Post-secularism» يُعدّ خير شاهد على وَجاهة الحديث عن «بَعْد العَلْمانيّة» (ينبغي الانتباه إلى أنّ عبارة «ما بَعْدَ العَلْمانيّة» لا تصحّ إلّا بمعنى أنّ لفظ "ما" يَدُلّ فيها على «شيء مُعيَّن يأتي زمنيّا "بَعْدَ" طَوْر "العَلْمانيّة"»، في حين أنّ عبارة «بَعْد العَلْمانيّة» تُفيد باختصارها معنى "البَعْديّة" بالنِّسبة إلى "العَلْمانيّة" فقط ومن دون أيِّ تعيين؛ وهو أمرٌ يَنطبق على كل المُصطلحات التي جرى فيها، من دون تبيُّن، استعمال «ما بَعْد» كقولهم مثلا «ما بعد الطبيعة» بدلا من «بَعْد الطبيعة/بَعْد الطبيعيّات»!).
وعلى شرف الذين يَتلذّذون بـ«الكسل الفكريّ» كسندٍ لما يَأتونه من «خطابِ اللَّغْوى»، يُمكن أن يُشار إلى أنّ ثمة عدّة مقالات تحمل في عناوينها تلكـ المُصطلحات أو ما يدل عليها: نذكر منها «هوامش على مجتمعٍ بَعْد عَلْمانيّ» لـ"هابرماس" (Habermas, «Notes on a Post-Secular Society»)[2] و«بَعْدُ عَلمانيّة أمْ دُستورانيّةٌ دمقراطيّة-لِبراليّة» (Veit Bader, «Post-Secularism or Liberal-Democatic Constitutionalism»)[3] و«بعيدا عن الحُكم الإلاهيّ والعَلْمانيّة: نحو نُمْذُوج جديد للقانون والدين» (Mark C. Modak-Truran, «Beyond Theocracy and secularism : Toward a New Paradigm for Law and Religion»)[4] و«المجتمع بَعْد العَلْمانيّ والمجال الدينيّ بأصواته المتعددة في تركيا» (Alper Bilgili, «Post-Secular Society and the Multi-Vocal Religious Sphere in Turkey»)[5].
وهناكـ، كذلكـ، كُتبٌ كاملة تحملها في عناوينها، من بينها «أنواعُ الإلاهيّات السياسيّة: الأديان العموميّة في عالمٍ بَعْد عَلْمانيّ» (Hent de Vries and Lawrence E. Sullivan, Political Theologies: Public religions in a post-secular world)[6] و«بعد العَلْمانيّة: التحدِّي الخفيّ للتطرُّف» (Mike King, Postsecularism: The Hidden Challenge to Extremism)[7] و«بَعْدَ القانون العَلْمانيّ» (Winnifred Sullivan, Robert Yelle and Mateo Taussig-Rubbo, After Secular Law)[8].
والأدهى من ذلكـ كُلّه أنّ "إريكـ وَلْبر" (Eric Walberg) – الصحافيّ الكنديّ المُتخصص في شؤون الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ورُوسيا، صاحب كتاب «التوسُّع الهيمنيّ بعد الحديث: الجغرافيّة السياسيّة والألعاب الكبرى» (Postmodern Imperialism : Geopolitics and the Great Games, 2011)- له كتابٌ جديدٌ مُثير بعنوان «من بَعْد الحَداثيّة إلى بَعْد العَلْمانيّة: الانبعاث الجديد للحضارة الإسلاميّة» (From Postmodernism to Postsecularism: Re-Emerging Islamic Civilization, 2013 ) والفصل السادس منه بعنوان «بعد العَلْمانيّة: محمد وماركس» (Postsecularism : Muhammad and Marx)[9]!
ويُمكننا، من ثَمّ، أن نفهم عبارة «بَعْدُ العَلْمانيّة» في مُستويات ثلاثة: أوّلُها يُفيد أنّ "العَلْمانيّة" قد استتبّ لها الأمر وصارت تفترض أن يُسوَّى وَفْقها كل شيء يأتي بعدها (وهو معنى أثيرٌ جدّا لدى أدعياء "العَلْمانيّة" بيننا!) ؛ وثانيها يدل على أنّ "العَلْمانيّة" قد استنفدتْ وظيفتَها وباتت مُتجاوَزةً بحيث يُمكن الحديث عن «ما يأتي بَعْدَها» بصفته ضدًّا لها (وهو معنى يدخل في إطار ما تفرضه الصيرورة التاريخيّة والاجتماعيّة على كل ثَمَرات الفعل البشريّ) ؛ وثالثها يُشير إلى أنّ "العَلْمانيّة" تُصوِّرتْ في إطار "نُمْذُوج" ("نُمْذُوج" بمعنى «paradigm» كما صار مُستعملا بعد "طوماس كُون"، ولفظ "نُمْذُوج" هذا أفضلُ من اللّفظين المعروفين "نَمُوذَج" و"أُنْمُوذج" لأنّه بصيغةِ "فُعْلُول" كـ"خُذْرُوف" و"جُلْمُود" و"هُذْلُول"، فهو تصحيحٌ صرفيٌّ قد آن أوانُه لأداء معنى جديد!) يَبقى مُرتبطا بمُجتمعاتِ «بعدَ العصر الوسيط»، في حين أنّ المجتمعات المعاصرة أصبحت تعيش، منذ نحو قرن، في إطار «نُمْذُوج جديد» يَتميّز بتجاوُز كل القوالب والأنماط التّقليديّة وبالخروج من إسار "الاختزاليّة" التّبسيطيّة والوُثوقيّة إلى آفاق "الشُّموليّة" التّقريبيّة والتّرجيحيّة المُحيطة بالأنساق في اتِّصافها بـ"التّعقُّد" و"التّكامُل" و"التّسارُع".
وهكذا، فبدلا من الحديث عن "العَلْمانيّة" كتدهير ضروريّ ومُطرِّد مَثَلُه الأعلى «الدولة الدِّمقراطيّة» كسُلطات وَضعيّة ومركزيّة، أصبح الحديث قائما لا فقط حول «تعدُّد المُجتمعات» و«تعدُّد الثقافات»، بل أيضا حول «تعدُّد الحداثات» و«تعدُّد الدِّمقراطيّات». وفي هذا السياق، لم تَعُدِ "العَلْمانيّةُ" مطروحةً كأمر محسوم قد فُرغ منه إلى الأبد، بل صارت موضوعا للمُراجَعة النّقديّة والمُساءَلة الجذريّة (كما نجد، مثلا، عند "شارل تيلور" في «لماذا نحتاج إلى إعادة تحديد جذريّ للعَلْمانيّة؟»[10] أو مع "ماثيو شيرر" في «مَعالِمُ في الدراسة النقديّة للعَلْمانيّة»[11] أو عند "طلال أسد" في «تشكُّلات العَلْمانيّة: المسيحيّة، الإسلام، الحداثة»[12] أو في الكتاب الجماعيّ «إعادة التّفكير في العَلْمانيّة»[13] أو في العمل الجماعيّ حول كتاب "شارل تيلور" عن «عصر دُنيويّ»[14])؛ وهو ما جعل بعض الدّارسين يَتحدّث عن مُصطلح «بَعْد العَلْمانيّة» بصفته يَدُلّ على معنى «زوال/إزالة العَلْمانيّة» (أو، إنْ شئنا النّقل الحرفيّ، «اللّاعَلْمنة» في مقابل «de-secularization»)!
ولأنّ الأمر في «بَعْد العَلْمانيّة» يَتعلّق بـ"نُمذُوج" انقلابيّ جديد، فينبغي أيضا أن يُتحدَّث عن «بَعْد العَلْمانيّة» بمعنى التّناوُل البَعْديّ الذي يَنْصبّ على "العَلْمانيّة" مبادئ وإجراءات وغايات على غرار «بَعْد الطبيعيّات» و«بَعْد الرياضيّات» و«بَعْد الخُلُقيّات»[15]. ويجدُر، بهذا الخصوص، أن يُتبيّن أنّ «النُّمْذُوج الجديد» يَفرض التّفكير فيما وراء الانقطاع المُفترَض أو المرغوب بين "الوصفيّ" و"المعياريّ" وبين "العِلْميّ" و"الخُلقيّ" وبين "الدينيّ" و"الدُّنيويّ" و، من ثَمّ، بين "الدينيّ" و"السياسيّ". ذلكـ بأنّ «العقلانيّة المُجرَّدة» صار يجب اطِّراحها كعقلانيّة ضيّقة واختزاليّة ووُثوقيّة والانتقال نحو نوع من «العقلانية الحيّة» بصفتها عقلانيّة مُوسَّعة ومُتكوثرة وترجيحيّة[16]. وربما يَحسُن أن تُسمّى هذه «العقلانيّة الحيّة» بـ"الراشديّة" تأكيدا لكونها تقوم على طلب "الرُّشْد" وتعمل على إبطال سحر "العقل" في المدى الذي أُلِف أن يُنظَر إليه بصفته ذلكـ "الجوهر" المُقوِّم لذات الإنسان والمُستقلّ بنفسه عمّا سواه.
وأكيدٌ أنّ «أنصاف الدُّهاة» - باعتبارهم أُولئكـ الذين يقف بهم ذكاؤُهم أو دهاؤُهم في منتصف طريق التّفكير فلا تراهم يُركِّزون إلّا على ما يُناسب أغراضهم ويَغفُلون تماما عمّا لا يُرضي نَخوتهم الفكريّة- سيقولون إنّ الحديث عن «بَعْد العَلْمانيّة» في حالةِ مُجتمعاتنا لم يأت أوانُه بعد، بل هو ترفٌ فكريّ خاص بمُجتمعات أنجزت حداثتها منذ زمن فحُقّ لها أن تتطلّع إلى ما بعدها. غير أنّ مثل هذا التّبرير لا يذهب إليه إلّا الذين أُشربوا في قُلوبهم "التّقليد" حتّى صاروا لا يرون إمكانا لبلوغ "التّجديد" إلّا باتِّباع خُطوات السابقين قبل الطمع في الإتيان بما يُخالفها أو يُصحِّحها، ولسانُ حالهم يَلْهج سرًّا وعلانيَةً بأنّه «لا حداثة إلّا باحتذاء الحداثة الغربيّة» و«لا تحديث إلّا بالدَّمَقْرَطة كتدهير عَلْمانيّ»!
ما يَفرض الحديث عن «بَعْد العَلْمانيّة» يَرجع، إذًا، إلى الانقلاب الكبير في «مشروع الحداثة» بصفته كان يُنظَر إليه كصيرورة قائمة أساسا على «بُطْلان/إبطال سِحْـر العالَم» على النّحو الذي يَجعل "التّنوير" مُلازِما لـ"التّحرير" ومُتصوَّرا بما هو "تدهيرٌ" (في مقابل «التديُّن/التّدْيين») و"تأنيسٌ" (في مقابل «التعبُّد/التّأليه»)، أيْ بما هو تحرُّر بشريّ ودُنيويّ من "الدِّين" و"اللّـه" بالتّحديد. وهذا ما تُلخِّصه عبارة «موت الإلاه» كما هَرَّبها "نيتشه" من "الإلهيّات" (المسيحيّة) ففَرضها، بكل تحكُّم، على "الوُجوديّات" (الفلسفيّة). لكنّ صيرورةَ «بُطْلان/إبطال سِحْـر العالَم»، التي كان يُظنّ أنّها تقتضي الخروج الضروريّ من "الدِّين" وأنّها لا رُجوع عنها بتاتا، لا تُؤكِّد بُزوغ عصر "التّحرُّر" الإنسانيّ من إِسار "التّدجيل" و"التّخريف" إلّا بقدر ما تَفضح إكرهات "التّدهير" بما هو "تطبيعٌ" اختزاليّ و"توضيعٌ" عَدَميّ.
وبما أنّ الرهان من وراء «بُطلان/إبطال سحر العالَم» إنّما هو تجاوُز وهميّة «الخلاص الدينيّ» نحو واقعيّة «الحُريّة المَدنيّة/الدُّنيويّة» كنتاج للتأسيس القانونيّ والسياسيّ، فإنّ إرادةَ بناء "الحريّة" على أساس ما يَستلزمه من «تدهير/تَدْنيَة» يقود لا محالة إلى مُعضلةٍ تَتمثّل في أنّ حصر الوُجود والفعل البشريّين في حُدود الشروط الطبيعيّة والاجتماعيّة لهذا العالَم لا يُمكِّن من "التّحرُّر" كانفكاكـ عن ضرورة العالَم، بل يَستبعده بإطلاق كأنّه لا خلاص ولا تخلُّص من شُروط «الوضع البشريّ» وحُدوده، وإنما هو فقط قَبُولها كَرْها والاتِّضاع ضمنها تسليمًا.
وإذَا لم يَكُنْ في ذلكـ إقرارٌ ببُؤس وضع الإنسان في هذا العالَم، ففيه بالتأكيد فتحٌ لأبواب "العَدَميّة" تنسيبا مُطلَقا لـ"الحقيقة" و"الفضيلة" فيما وراء كل القيم المُتعاليَة. والحالُ أن "التّحرُّر" لا معنى له إنْ لم يَنْبنِ على "التخلُّص" من سُلطان العالَم وسحره و، أيضا، من سُلطان النّفس وأهوائها. وبالتالي، ينبغي أن يكون بيِّنا أنّه لا سبيل إلى «التّحرُّر/التّخلُّص»، بهذا المعنى الأخير، من دون "الدِّين" الذي يَتحدّد في جوهره بصفته "التّنْزيه" توحيدا و"التّزْكيَة" تخلُّقا[17]. ومن هنا، يمكن أن يُفهَم لا فقط الرجوع القويّ للدِّين عبر مُجتمعات العالَم، بل أيضا بداية التّفكير في إعادة إدماجه في قلب المجال العموميّ بالمُجتمعات الغربيّة نفسها (بما في ذلكـ اعتماد «الشريعة الإسلاميّة» في قضاء الأُسرة كما يُعمل به في "كند" أو بعض الولايات الأمريكيّة أو «الماليّة الإسلاميّة» في نظام المُعاملات المَصرفيّة!).
إنّ الانخراط في «النُّمْذوج الجديد» يَعني الإيقان بتهافُت "الوَضعانيّة" – بشِـقَّيْها "العِـلْمـ-ـانيّ" (القائل بأنّ "العلم" حاكمٌ على ما سواه) و"التاريخانيّ" (القائل بأنّ "التاريخ" حاكمٌ على ما سواه)-، أيْ أنّه لم يَعُدْ ثمة مجالٌ للدّعوة أو التّفكير في حُدود مفهوم «التّدْهير/التّدْنيَة» في اقتضائه، بالخصوص، لـ"التّوْضيع" (اعتبار أنّ «وَضع الأشياء والأشخاص في الواقع» لا سبيل إليه من دون "توضيع" الوُجود والفعل البشريَّين بالنِّسبة إلى مجموع الشروط المُحدِّدة لهما طبيعيّا واجتماعيّا)؛ وإنّما يجب النّظر إلى "التّوضيع"، اللّازم دُنيويّا، من جهة كونه لا يَنْفكّـ عن "التّرْشيد" الواجب عقليّا وخُلقيّا.
وبما أنّ "الراشديّة" تقوم على مُناهَضة "الوصاية" (سواء أكانت باسم الدِّين أو باسم الدُّنيا)، فإنّ تصوُّر "العَلْمانيّة" كمجرد «تدهير/تدنيَة» لا يعدو أن يكون تبسيطا لا معنى له إلّا في إطار تلكـ الإرادة المُرتبطة بـ«الفكر الأُحاديّ» الذي يحرص أصحابُه، باسم نوع من "التّنوير" المُتحادِث، على حصر وُجود الإنسان وفعله في حُدود هذا «العالم الدُّنيويّ» كأنّه لا أُفق وراءه ولا إمكان من دونه. وقيامُ "الرُّشْد" على الخروج من عُموم "الوصاية" (من قِبَل الأرباب المُتألِّهين أو الكهنة المُتجبِّرين) يَقُود، بالأحرى، إلى رفض تلكـ «الدَّهْريّة/الدُّنيويّة» التي ما فتئت تَتنكّر في رداء «عقلانيّة التّنوير» بصفتها خيارا وحيدا ومُلْزِما لكل الناس في الأزمنة الحديثة.
ولذلكـ، إنْ كان قيامُ/إقامة «الدّولة الرّاشدة» لا يَتمّ من دون ﭐلتزام/إلزام السلطات العموميّة "الحياد" دينيّا وفِكْرويّا تُجاه كل "المُواطنين"، فإنّه لا شيء يَفْرض تحييد (وتعطيل) "الدِّين" عُموميّا ومَدنيّا ما دام يستحيل عمليّا الفصل الباتّ بين «مجال الاعتقادات والقيم» و«مجال الإجراءات والتّدبيرات»، وهو الفصل الذي لا يزال يَتوهّم لُزومَه أدعياءُ "العَلْمانيّة" بيننا غافلين عن أنّ القول بإمكانه بشريّا يَقتضي إمّا "تأليه" الإنسان (بجعله في مَقام الإله غير المُتحيِّز) وإمّا "تَأْليلَه" (تحويله إلى آلة بلا شُعور ولا رغبة)!
ولا يخفى أنّ قيام "الإسلام" على مبدإ أنّه «لا إكراه في الدِّين» يَجعل "الراشديّة" تُمثِّل تعبيرا عن رُوح «الدِّين/التديُّن» فيه، ممّا يُفسِّر كيف أنّ أدعياء "العَلْمانيّة" بيننا يَشنُّونها حربا شعواء على كل ما له صلة بـ"الإسلام" ليس فقط لعلمهم بأنّ دعواهم تصير باطلةً بمُقتضى العمل بدينٍ ذاكـ شأنُه، بل أيضا لإدراكهم أنّ «إرادة القوّة» التي تُحرِّكهم لا سبيل للتّمكين لها في مجتمعات لا تَدين بالطاعة إلّا للحقّ في تَعالِيه على الأشخاص والأشياء.
وبالتالي، فإنّ تُجّار "التّضليل" من كل صنف يجدون أنفسهم مُضطرِّين عالميّا للتّكالُب على "الإسلاميِّين"، خصوصا بعد صُعودهم السياسيّ على إثر انتفاضات «الربيع العربيّ»، فتراهم يَتعاطون – بكل ما في وُسْعم- مُختلف أشكال التّهويل والشَّيْطنة لعلّهم يُفْلحون في صدِّ زحفِ ما اعتادوا تسميته بـ«الإسلام السياسيّ» الذي يُمثِّل انتصارُه، في الواقع، قَلْبا جذريّا لما رَسَخ اعتقادُه حديثا من أنّ "الدِّين" و"السياسة" ضدّان لا يجتمعان من حيث إنّ "الدِّين" في الظنِّ الشائع مجالٌ لأخلاق أُخْرويّة مصدرها "الوحي" المُتعالي، و"السياسة" مجالٌ لإجراءاتٍ دُنيويّة الحُكم فيها - حسب زعم "العَلْمانيِّين"- يكون فقط لـ"العقل" المُتنزِّل بشريّا وموضوعيّا.
________________
[1] اُنظر:
- Charles Taylor, « Why We Need A Radical Redefinition of secularism », in : The Power of Religion in the Public Sphere, edited and introduced by Eduardo Mendieta, Jonarthan Vanantwerpen and Craig Calhoun, Columbia University Press, New York, 2011, p. 36.
[2] اُنظر:
- Jürgen Habermas, «Notes on a Post-Secular Society», New Perspectives Quarterly, Volume 25, Issue 4, pp. 17–29, Fall 2008.
[3] اُنظر:
- Veit Bader, «Post-Secularism or Liberal-Democatic Constitutionalism», in Erasmus Law Review, Volume 5, Issue 1 (2012).
[4] اُنظر:
- Mark C. Modak-Truran. «Beyond Theocracy and secularism (Part I): Toward A New Paradigm For Law and Religion», in Mississippi College Law Review, 27.1 (2008): 159-233.
[5] اُنظر:
- Alper Bilgili, « Post-Secular Society and the Multi-Vocal Religious Sphere in Turkey», European Perspectives – Journal on European Perspectives of the Western Balkans, Vol. 3, No. 2 (5), pp. 131-146, October 2011.
[6] اُنظر:
- Hent de Vries and Lawrence E. Sullivan, Political Theologies: Public religions in a post-secular world, FORDHAM UNIVERSITY PRESS NEW YORK, 2006.
[7] اُنظر:
- Mike King, Postsecularism: The Hidden Challenge to Extremism, James Clarke & Co Ltd , 2009.
[8]اُنظر:
- After Secular Law, edited by Winnifred Sullivan, Robert Yelle and Mateo Taussig-Rubbo, Stanford University Press, 2011.
واُنظر أيضا:
- The Post-Secular in Question: Religion in Contemporary Society, edited by Philip S. Gorski, John Torpey, David Kyuman Kim and Jonathan Vantwerpen, New York University Press, 2012.
- Post-Secular Society, edited by Peter NynAys, Mika Lassander and Terhi Utriainen, Transaction Publishers, 2012.
- Jolyon Agar, Post-secularism, Realism & Utopia: Transcendence & Immanence from Hegel to Bloch, Routledge, 2013.
- Multiple Modernities and Postsecular Societies, edited by Massimo Rosati and Kristina Stoeckl, Ashgate Publishing Limited, 2012.
[9] اُنظر:
- Eric Walberg, From Postmodernism to Postsecularism: Re-Emerging Islamic Civilization, Clarity Press Inc, 2013.
[10] اُنظر:
- Matthew Scherer, « Landmarks in The Critical Study of Secularism », Cultural Anthropology, Vol. 26, Issue 4, pp. 621-632.
[11] اُنظر:
- Charles Taylor, « Why We Need A Radical Redefinition of secularism », in : The Power of Religion in the Public Sphere, edited and introduced by Eduardo Mendieta, Jonarthan Vanantwerpen and Craig Calhoun, Columbia University Press, New York, 2011, pp. 35-59.
[12] اُنظر:
- Talal Assad, Formations of the secular : Christianity, Islam, modernity, Stanford University Press, 2003.
[13] اُنظر:
- Rethinking Secularism, Edited by Craig Calhoun, Mark Juergensmeyer And Jonathan VanAntwerpen, Oxford University Press, 2011.
[14] اُنظر:
- Varieties of Secularism in A Secular Age, edited by Michael Warner, Jonarthan VanAntwerpen and Craig Calhoun, Harvard University Press, 2010.
[15] اُنظر:
- The Sacred in A Secular Age: Toward Revision in Scientific Study of Religion, edited by Phillip E. Hammond, California University Press, 1985. And See Also:
- Antoon Braeckman, «Habermas and Gauchet on religion in postsecular society. A critical assessment», Continental Philosophy Review 42 (3): 279-296 (2009).
- Rob Warner, Secularization and its discontents, London, Continuum International Publishing Group., 2010.
[16] اُنظر: طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط 1، 2012، الفصل الثاني منه بالخصوص. وله أيضا: سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط 1، 2000.
[17] اُنظر: طه عبد الرحمن، رُوح الدين: من ضيق العَلمانيّة إلى سَعة الائتمانيّة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط 2، 2012
http://hespress.com/writers/82726.html
http://ixiir.com/articles/مقالات/1068/عبد الجليل الكور/السياسة والإقتصاد/سياسة/«بَعْدُ العَلْمانيّةِ» في سياق «النُّمْذُوجُ الجديد».html
http://www.islammaghribi.com/مقالات-الرأي/بَعْدُ-العَلْمانيّةِ-في-سياق-النُّمْذُوجُ-الجديد.html